كنت في سن المراهقة حين قضيت عامي 1986 و1987 في مدينة "مينيابلس" بولاية منسوتا الأمريكية.. وفي كل مرة كنت أعبر الجسر الذي يقطع نهر المسيسبي أرى رجلا يسير ذهابا وإيابا حامل لوحة كتب عليها "كفر بواح".. وفي كل مرة أراه فيها ينتابني شعور بضرورة النزول لـضربه وتكسير اللوحة فوق دماغه (والحمد لله أنني لم أفعل كي لا تظهر الصحف في اليوم التالي تقول: متطرف مسلم يضرب مواطنا يعبر عن حقه بموجب التعديل الأول في الدستور)! وما أثار استغرابي حينها ليس اللوحة بل عدم تعرض أحد له طوال تلك الفترة (خصوصا أنه على هذه الحالة قبل مجـيئي بــسنوات). وفي المقابل لك أن تتصور نتائج حمل مثل هذه اللوحة في أحد شوارع الرياض أو القصيم ــ أو حتى القاهرة وإسطنبول ... !! ... وقبل التوسع أكثر أشير الى أن الهدف من هذا المقال ليس ترجيح موقف على آخر بـل محاولة تقديم نموذج لتعامل الناس في المجتمعات الأخرى مع من يخالفهم في الرأي والمعتقد (والمفارقة أنه ذات الموقف الذي تعامل به الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة الرضوان مع مندوب قريش سهيل بن عمرو).. ففي حين تأتي ردود الفعل لدينا عنيفة وقاسية (ولا تقبل حتى مبدأ الاستماع والحوار) تأتي ردود الفعل في المجتمعات الأخرى هادئة تميل للنقاش وتسمح بإبداء الرأي والاستماع للطرف الآخر. وفي حين أثار حامل اللوحة غضبي وحفيظتي رأيت في المقابل أشخاصا ــ أثارت اللوحة حفيظتهم مثلي ــ ولكنهم كانوا يوقـفون سياراتهم وينزلون لمناقشته والتحاور معـه.. استغرق مني الأمر وقتا طويلا للتعرف على وجهة نظر مغايرة تـنظر لمواقف كهذه كـ"رأي شخصي" يحق للشخص التصريح به ــ أو حتى كتابته علنا والوقوف به على الجانب المقابل من الجسر!! .. أعرف أنه يبدو موقفا غريبا وغير مفهوم لمعظمنا (وهو كذلك بالفعل) ولكنه في الحقيقة هو الشائع والسائد في معظم المجتمعات (غير العربية).. رأيته شخصيا في أكثر من بلد ومناسبة.. ففي عام 1999 مثلا كنت في الدنمارك في ذكرى دخول القوات الألمانية للبلاد أثناء الحرب العالمية الثانية.. ولأن الدنمارك كانت تدرك عجزها عن مواجهة الألمان قررت الحكومة السماح طواعية للجيوش الألمانية باحتلال البلاد حفاظا عليها من الدمار.. هذا القرار يراه بعض الدنماركيين ــ حتى اليوم ــ حكيما ومتعقلا في حين يراه البعض الآخر جبانا ومتخاذلا. وحين صادف وجودي تلك الذكرى مررت بمعرض للصور الكاريكتورية القديمة التي صدرت بتلك المناسبة.. لفت انتباهي صورة تــُـظهر ملكة الدنمارك في وضعية مسيئة، تقول للـقوات الألمانية "مرحـبا بكـم في الدنمارك"! .. ومره أخرى لم ترق هذه اللوحة لكثير من الوطنيين المحافظين ولكن لم تظهر أي ردود فعل عنيفة تجاه اللوحة أو الفنان نفسه. ... ورغم أن الهدف من هذا المقال ــ كما قلت سابقا ــ ليس ترجيح أو تفضيل موقف على آخر؛ إلا أنني أتساءل ــ من الناحية الإستراتيجية ــ أي الموقفين أجـدى لــتأليف القلوب وكسب المشاعر والدعوة لـلإسلام.. هل هي مواقف العنف والتفجير وردود الفعل القاسية، أم مواقف النقاش والهدوء ودفع الأذى {بالتي هي أحسن}...
مشاركة :