خيري منصوربعد التقدم الذي أحرزه الطب أعطى كثير من الناس لأنفسهم الحق في التشكيك بجدوى الوصفات الشعبية لبعض الأمراض، بحيث لم تعد أقراص الإسبرين وكمادات الماء البارد والحجامة علاجاً ناجعاً لأمراض مزمنة، لكن بالمقابل ورغم تقدم العلوم الإنسانية خصوصاً في مجالي النفس والاجتماع بقيت المقولات التقليدية هي الأكثر تداولاً بين الناس، وتصور البعض أن مراجعة طبيب نفسي لأي سبب مسألة لا تخلو من مجازفة وقد تلحق الأذى بسمعة المريض؛ وذلك إما لجهل بالدور الذي يلعبه المحلل النفسي أو لأن الوصفات النظرية من مواعظ وأقوال مأثورة هي السبيل إلى تحقيق التوازن أو التخفيف من الأرق والصراعات الداخلية.فهل حدثت هذه المفارقة لأن تطور الطب المتعلق بالجسد مرئي بالعين المجردة، بينما بقيت العلوم الأخرى ذات الصلة بالعقل والنفس غائمة وأقرب إلى التجريد؟بالطبع هي مسؤولية المشتغلين في هذه الحقول، لأن بقاءهم داخل أسوار الجامعات وفي نطاق التخصص المتعالي عن العامة يحرم الناس من تطوير أفكارهم ومفاهيمهم الموروثة حول ما هو ذهني ونفسي وغير قابل للرصد بالعين المجردة.وحين يكون التطور أحادي الجانب فإن المجتمعات تحلق بجناح واحد فقط، وهذا ما حدث في دول كبرى أصاب توازنها الخلل، لأنها أعطت ما للرب لقيصر، وأنفقت على التسليح أضعاف ما أنفقت على العلوم ذات الصلة بتطوير المجتمعات وتحسين شروط معيشتها.وكما أن المرض العضال لا يعالج بأقراص مخدرة أو بالكمادات المنقعة في الماء البارد، فإن ما يصيب المجتمعات من أمراض حين تصاب بوصلاتها بالعطب لا يعالج بالمواعظ والتربيت على الأكتاف أو بالعبارة التقليدية المنسوبة إلى «كارنيجي» وهي دع القلق وابدأ الحياة!نحتاج إلى اعتراف فعلي بعلوم وثيقة الارتباط بنفوسنا وعقولنا وصراعاتنا الداخلية، وبغير ذلك، نكون كمن يحاول التحليق بجناح واحد ثم يسقط كعباس بن فرناس مضرجاً بدمه.
مشاركة :