البوح وسيلة للاعتراف في النص السردي

  • 8/14/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

صدرت عن دار «مسكيلياني» للنشر بتونس نوفيلا «أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» للروائي النمساوي ستيفان زفايغ، ترجمة الأسعد بن حسين، مراجعة وتحرير أحمد شاكر بن ضيّة. وهذه ليست نوفيلاه الوحيدة؛ فلقد سبق له أن كتب نوفيلات عدة، نذكر منها «لاعب الشطرنج»: «فوضى المشاعر»: «اللعبة الملكية»، وغيرها من النوفيلات التي ظلت عالقة في أذهان القرّاء في مختلف أرجاء العالم. وبما أن زفايغ (1881 - 1942) كاتب متعدد المواهب، فهو قاص، وروائي، وكاتب مسرحي، فقد أصدر العديد من الكتب الأدبية، لكننا معنيّون في هذا المقال بالحديث عن نوفيلا « أربع وعشرون ساعة من حياة امرأة» بترجمتها الجديدة؛ فلقد سبق لفاطمة نظامي أن ترجمتها إلى العربية، كما ترجمتها دار «الهلال» المصرية من دون الإشارة إلى اسم المترجم.على الرغم من تعدد الشخصيات والأحداث والأمكنة، فإن السيدة البريطانية «C» هي الشخصية الرئيسة Protagonist التي ستتبنى عملية السرد، وسوف تأخذ حصة أكبر من الراوي نفسه، ولولاها لما عرفنا قصة الشاب البولوني المُولع بالقِمار الذي يخسر كل ما يملك حتى يضطر إلى بيع صليبه بعد أن باع حقيبته وثيابه ومطريته.وبغية الإمساك بالثيمة الرئيسة لهذه النوفيلا لا بد من الإشارة إلى أن الراوي الذي كان يدافع عن السيدة هنرييت، التي هربت مع شاب فرنسي، أرستقراطي وسيم، تاركة زوجها وابنتيها اليافعتين في الريفيرا الفرنسية هو الذي أمدَّ النوفيلا بالفكرة المُهيمنة التي صاغها بشكلٍ دقيق حينما قال: «إن 24 ساعة قادرة على تغيير حياة امرأة كليّاً» (ص 104). ثم تنبجس منها عشر ثيمات فرعية في الأقل تتمثل بـ«الوحدة، والمشاعر المشوّشة، والخطيئة، وخلوّ الحياة من الهدف، والشغف بالقمار، ومراقبة الأكفّ، والخيبة، واليأس، والانتحار، والذكريات الشخصية».لا شك في أن هرب السيدة هنرييت مع الشاب الفرنسي ينطوي على انتقاد للطبقة الأرستقراطية الفرنسية، لكننا في الوقت ذاته يجب أن نركِّز على الجانب النفسي لكل شخصية على انفراد. فالمعروف عن زفايغ ولعه بالجانب النفسي الذي استلهمه من سيغموند فرويد، ودراسته للمشاعر والأحاسيس البشرية التي يمكن أن تتبدل في أي لحظة وتحوّل حياة صاحبها إلى جحيم لا يُطاق.يبدو أن صوت المؤلف يختفي وراء قناع الراوي الذي كان يدافع بشدة عن هذه اللحظة الإنسانية التي غيّرت قناعة هنرييت وجعلتها تتخلى عن كل شيء باستثناء قلبها الذي استيقظ فجأة وتناغم مع قلب هذا القادم الجديد. ولعل هذه القصة الفضائحية هي التي دفعت السيدة «سي»، المرأة الإنجليزية المميزة التي تنتمي هي الأخرى إلى الطبقة الأرستقراطية الثرية في إنجلترا، لأن تبوح للراوي بقصتها التي حدثت في 24 ساعة زمنية لا غير. وبما أنها أنجليكانية، وليست كاثوليكية، فإنها لا تستطيع أن تتخلص من خطيئتها بالاعتراف، فلا غرابة إن ظلت تنوء بهذا الحِمل الثقيل لمدة خمس وعشرين سنة إلى أن توصلت بأن البوح بهذه القصة هو الطريقة الوحيدة للتنفيس، والتخلص، ولو بشكلٍ جزئي، من عقدة الشعور بالذنب أو الخطيئة التي انزلقت إليها من دون تخطيط مسبق.تُقدِّم السيدة «سي» نفسها، فنعرف أنها تنحدر من أسرة اسكوتلندية ثرية. تزوجت في الثامنة عشرة من شاب ينتمي إلى عائلة مرموقة، خدم في الجيش البريطاني لمدة عشر سنوات، ورُزق منها بطفلين، وحينما بلغت الأربعين عاماً توفي متأثراً بمرض في الكبد لتجد نفسها ضحية للوحدة، كما شعرت بأن حياتها قد باتت خالية من أي هدف. وبعد مرور سنتين على ترمّلها ذهبت إلى مونت كارلو وارتادت كازينو القمار الذي اعتادت أن تذهب إليه مع زوجها لتبدأ هناك الساعات الأربع والعشرون التي أرّقت حياتها على مدى ربع قرن.كان زوجها مولعاً بمراقبة الأكفّ، فالمقامرون يتحكّمون بوجوههم فلا تظهر عليها الانفعالات، لكنهم ينسون أكفّهم التي تعبِّر عن نفسها بغريزتها البدائية وتفضح كل ما تضمره الوجوه الصمّاء. تنتبه السيدة «سي» إلى شاب جذاب يبدو مهووساً بالمقامرة إلى درجة الشغف لكنه، لسوء الحظ، يخسر كل شيء، وينهض مترنّحاً وكأنه ذاهب إلى حتفه بقدميه. أشرنا سلفاً إلى أن زفايغ يغوص في أعماق شخصياته، فقد صوّر لنا الشاب الأرستقراطي المقامر وهو في طريقه إلى النهاية المُرتَقبة، كما صوّر في الوقت ذاته السيدة الإنجليزية التي حدست بأن هذا الشاب مُقدِم على الانتحار لا محالة، وأن ثمة شيئا ما قد سلبها إرادتها ودفعها للحاق بهذا الرجل الغريب. «لم أكن أنا من أصدر القرار، بل كائن في داخلي أملى علي الأمر» (ص46). وعلى الرغم من نواياها الطيبة التي تقتصر على إنقاذه من الموت فقط ولم تتعداها إلى إقامة علاقة عاطفية معه، فإنها وجدت نفسها إلى جوار رجل غريب في المنزل الذي استأجرته ودفعت ثمنه. إن فوضى المشاعر هي ثيمة أخرى تتردد كثيراً في كتابات زفايغ فمع، أن السيدة «سي» قد صُدمت حينما وجدت نفسها في هذا الموقف المُحرِج، إلا أن مشاعرها الداخلية اختلطت ورأت فيه وجهاً طفولياً يشعّ بالنقاء والصفاء. ثم تصطحبه إلى الكنيسة ليقطع عهداً على نفسه بألا يُشارك في أي لعبة قمار مهما كان نوعها وألا يعرض سمعته وشرفه لهذا البلاء ثم تودِّعه في محطة القطار مساءً كي يغادر إلى دياره بجنوة. لا تخلو نوفيلات زفايغ من عنصري المفاجأة والإدهاش؛ فهما جزء أساسي من أسلوبه السردي. فحينما تعود السيدة «سي» وتختلط عليها المشاعر من جديد تشعر بالخيبة، وتتمنى لو أن هذا الشاب قد تشبّث بها أو حاول البقاء إلى جانبها في الأقل. ألا يعني هذا الإحساس بأنها كانت تحبه، وأنها كانت مستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجله تماماً كما فعلت السيدة هنرييت حينما تركت زوجها وفلذتي كبدها «آنيت» و«بلانش» لأنها استمعت إلى نداء القلب وشطحات الخيال؟ وتأكيد لما نذهب إليه نقتبس هذه التساؤلات التالية التي كانت تدور في ذهنها، حيث تقول: «لو تشبث بي ذلك الرجل حينها، لو طلب مني اللحاق به، لذهبت إلى أقاصي العالم... لو حاول أن يحضنني لكنت في تلك اللحظة ضائعة ومرتبطة به إلى الأبد» (ص87). بعد إنقاذه من الموت، وقَسمهِ في الكنيسة، وتوديعه في محطة القطار الذاهب إلى جنوة تفاجأ به وهو يلعب في صالة القمار، وحينما تحاول سحبه يرمي بوجهها النقود التي أخذها قبل قليل بإيصال ويطلب منها المغادرة؛ لأنها تجلب له النحس. ثم تغادر إلى باريس، ومنها إلى لندن لتستقر في منزل ابنها، حيث تستحم هناك لتطهر جسدها من رائحة ذلك الرجل المشين الذي سنكتشف لاحقاً أنه مات منتحراً في مونت كارلو من دون أن تأسف عليه هذه المرة، فلم يعد هناك أي شاهد ضدها سوى ذكرياتها الخاصة التي تعتبرها بئراً من المشاعر المختلطة والأحاسيس المتناقضة التي تجمع بين الحُب والكراهية، والجرأة في تنفيذ نداءات الجسد أو الإحجام عنها. فعندما يصل المرء إلى عتبة الشيخوخة يتوقف عنده هاجس الخوف من الماضي، وهذا ما شعرت به المرأة الإنجليزية بعد البوح بحكايتها المُؤرِقة وكأنها تخلصت من عبء ثقيل.

مشاركة :