الشاعر والقلب المثقوب بقلم: علي جعفر العلاق

  • 8/14/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

القصيدة التي لا يجد الناس فيها شيئاً من شؤونهم العامة أو الصغيرة، شيئاً من عذاباتهم أو مباهجم، من حماقاتهم وضعفهم البشري، دون ادعاءات أو حماس كاذب، إن قصيدة كهذه لا تجد طريقها إلى النفس، ولا تعمر طويلاً.العرب علي جعفر العلاق [نُشر في 2017/08/14، العدد: 10722، ص(14)] كلنا، تقريباً، جرّب أن ينظر من ثقب الباب، غير أن القليلين، والقليلين جداً ربما، من جربوا النظر من قلب ٍمثقوب. يوسف الصائغ كان يفرق بين هذين الشقين بكثير من الوجع وكثير من المحبة. وكان يعرف الفرق بينهما جيداً. في لحظة بالغة الحرج والقسوة كان عليه أن يقرر ما يتوجب فعله. ولم يأبه، آنذاك، بما سيقوله الآخرون عنه. فقد كان لديه ما يكفي من الشراسة وطيبة القلب وقوة السخرية ليميز بين الصواب المحض والخطأ الذي يشبه الخطيئة. لم يكن، في تلك اللحظة، يستمد يقينه من شيءٍ يقع خارج قلبه، أعني خارج حواسه الإنسانية وبعيداً عن فطرته السليمة. ولم يكن محتاجاً إلى شاهد زورٍ يسوّغ له ما يفعله قلبه، في لحظةٍ طفوليةٍ لا تقبل المداهنة أو الكذب: أنا لا أنظرُ من ثَقْبِ البابِ إلى وطني لكنْ أنظرُ من قلبٍ مثقوبْ ثم أميّزُ بين الحبِّ الغالبِ والحبِّ المغلوبْ.. هذا مقطعٌ من قصيدةٍ له كانت تنظر إلى وطنها المعذب من قلب ملأته الثقوب. لم تكن تتفرج عليه من وراء الباب، وهو موثق اليدين ورأسه مرخى على دكّة الذبح، ولا ترفع صوتها بعويلٍ زائفٍ أو كذبٍ محبوكٍ بعناية. هناك، أحياناً، قصائد تكتب من خلال كوّةٍ شديدة الضيق، مثل ثقب أحدثته رصاصة ثم مضت تتعثر في هواءٍ راكد. يطلّ الشاعر من هذه الكوّة الحيادية على حياة صغيرة أو متوهمة، فيظنها ممراً خفياً إلى ذاته. لكنه يتناسى حقيقةً صادمة تحاصره دون أن يدري: أن الشاعر الحقّ هو الذي يرتبط بوشيجةٍ سريةٍ وشديدة الدفء تشده لا إلى وطنه فقط، بل إلى العالم كله. أقصد إلى المشترك الإنسانيّ، الذي يجمع شتات البشر من خلال إحساسهم العام بالقهر، وحلمهم المشترك بحياة حرة وعالم أقل بطشاً. إن ذاتية الشاعر لا تعني عزلته عن حركة الحياة. وليس هناك من شحنةٍ ازدرائيةٍ في وصفنا قصيدةً ما بأنّها قصيدةٌ ذاتية، عامرة بالألم أو بالبشاشة. كل قصائد الشاعر، إذا كان حقيقياً، هي قصائد ذاتية بامتياز. شريطة ألاّ تنبثق من ذات معزولة، وضمير منغلق، وأن تجد طريقها إلى قلوب الناس، إلى كرامتهم المجرّحة ونفوسهم الهشّة، دون انفعالٍ مخادعٍ وشعاراتٍ تضجّ بالكذب على الله وعلى عباده معاً. القصيدة التي لا يجد الناس فيها شيئاً من شؤونهم العامة أو الصغيرة، شيئاً من عذاباتهم أو مباهجم، من حماقاتهم وضعفهم البشري، دون ادعاءات أو حماس كاذب، إن قصيدة كهذه لا تجد طريقها إلى النفس، ولا تعمر طويلاً. لأنها لا تنتمي إلى ما يعزز من قدرة الإنسان على مواجهة الشر والنفاق في ذاته وفي العالم على حد سواء. ومع أن كوةًّ ضيقةً تطلّ منها القصيدة على الدنيا قد تكون أرحبَ من برّيّةٍ شاسعة، فإن هناك شروطاً ترتجلها ذاتُ الشاعر على ذاته. هي برهانه على انتمائه الحميم إلى البشر المحرومين من العيش العادل ومن الموت الكريم أيضاً. وبذلك فإن السعة أو الضيق هنا ليس مادياً، بل هو حجمُ الارتطام بالحياة وتشرُّبُ ما فيها من نشوةٍ أو فزع. عرفنا شعراء كثيرين كانت أصواتهم واسعةً كالصحارى، وكانت شديدةَ البياض مثلها، لكن نقطة اتصالها بالحياة، رغم سعتها، لا تتمتع بالعمق والحميمية اللذين يجعلانها شريكة للناس في مكابداتهم الجمّة أو في مباهجهم النادرة. شاعر عراقيعلي جعفر العلاق

مشاركة :