مثل أي رجل أعمال فاشل جلستُ قبل سنوات في مطعم ياباني صغير للمشويات في طوكيو أتناول طعام العشاء. ولأن اليابانيين لا يحبون السهر إلا في أيام العطل، شأنهم شأن الأوروبيين، فإن عشائي كان مبكراً ومع غروب الشمس التي يبذل اليابانيون جهوداً مشهودة لإرسال أول مركبة غير مأهولة إليها لكي يقولوا للعالم: إن الشمس صنعت في اليابان! حين يجلس رجل أعمال من أي جنسية وحيداً في مطعم للعشاء عليك أن تعرف «رأستاً»، كما تقول المذيعات المستجدات، أنه فاشل. فرجال الأعمال الناجحون لا يتعشون منفردين في زوايا المطاعم. وهكذا كان مشهدي، وأنا أجلس وحيداً، يوحي أنني رجل أعمال فاشل أعطتني الدنيا ظهرها بعد أن غامرتُ بكل ما أملك من «أطيان» وأموال سائلة في صفقة كنت أعتبرها «تاريخية» لتصدير معاطف فرو إلى جمهورية الكونغو كينشاسا. بينما كان يابانيون سعداء على بعد نصف متر مني يتحلقون حول شخص بالغ الأهمية استنتجتُ أنه «كبير القعدة»، إذ كان الحضور يضحكون ويصفقون بعد كل جملة مفيدة يلقيها عليهم. ومن غير أن أشعر بدأت أضحك وأصفق مع الضاحكين المصفقين وأهزّ رأسي طرباً على طريقة مطربنا الشعبي محمد عبد المطلب الذي قضى عمره في مسيرة غير مليونية من مسكنه في «السيدة» إلى مسكن حبيبته في «الحسين» في أزقة القاهرة القديمة. ولأنني ضليع جداً في اللغة اليابانية لم أفهم كلمة من خطبة الرجل المهم، وتصورت أنه وكيل وزارة أو مدير القروض في أحد البنوك أو ضابط في إدارة المرور، فهؤلاء هم في نظرنا ونظريتنا أهم الناس في المجتمع. وتبين «بعد التي واللتيا» أنه رئيس مخزن الأخشاب في مصنع للقباقيب اليابانية الشهيرة! ولا علاقة لنظرتي «الثاقبة» في هذا الاكتشاف، وكل ما في الأمر أنه فتح حقيبته وأخرج منها نماذج من القباقيب ليقارن بين نوعية الأخشاب المستخدمة في كل منها عن طريق سماع صوت نقر الأرض بالقبقاب. هل سمعتم عن مدير مصنع أو صاحب مصنع نعلان عربية يحمل في حقيبته «السامسونايت» نماذج من إنتاج شركته ويلقي خطبة في عشاء عمل عن الفرق بين النعال العادي والنعال «أبو الإصبع»؟ قلت في أحد مقالاتي إن من مميزات المدير الياباني، أو رئيس الشركة، أنه إذا أدت سياسته إلى فشل الشركة أو خسارتها، أو إذا ألحق أضراراً بها بسبب فضيحة مالية أو شخصية، فإنه يمتلك الشجاعة الكافية التي تؤهله لأن يقف أمام منتسبي الشركة ويعترف بتقصيره علناً. وهو لا يطلب العفو والمغفرة ونسيان الماضي، ولا يبحث عن أعذار لتسويغ الفشل، ولا يفتش عن شماعة أو كبش فداء، ولا يردد كلمات زئبقية مبهمة من نوع الظروف والمستجدات والصيرورة والكينونة! واليابانيون في هذا لا يشبهون مجتمعات أخرى أترك أسماءها لك، يفشل فيها المدير أو رئيس الدائرة وتكثر فضائحه ويزداد اللغط حول تصرفاته وسوء استعماله للسلطة فيتصور الناس أنه سيطرد من وظيفته، إلا أنهم يفاجأون بصدور أمر بترقيته إلى منصب أعلى. والمدير الياباني ليس مديراً من وراء الكواليس أو الكوابيس، ولكنه جزء من النشاط المقرر للدائرة أو الشركة، فالسيد «توياما» وهو مدير أحد مصانع السيارات اليابانية يبدأ يومه بقراءة التقارير الإدارية والفنية من النوبة الليلية عن أية مشاكل في السيطرة النوعية على الإنتاج، ثم يعقد اجتماعاً مع مساعديه من فريق السيطرة لمناقشة التقارير واقتراح الحلول وإبداء الملاحظات. وهو يبتسم طوال الوقت لأنه يعد الابتسام دليلاً على الثقة في النفس و.. أضحك تضحك لك الدنيا! والعاملون يتعاملون معه كأنه أب أو أخ كبير. وهم يطلبون توجيهاته في العمل مثلما يطلبون مشورته في قضاياهم الشخصية وعلاقاتهم العاطفية. وحين تعلن مذيعة الإذاعة الداخلية في الشركة عن موعد تناول وجبة الغداء فإن توياما لا يتوجه إلى قاعة خاصة بالمدراء، لكنه يذهب إلى القاعة الكبرى، حيث يجلس جنباً إلى جنب مع منتسبيه يأكل مما يأكلون ويشرب مما يشربون ويشاركهم الضحك من النكتة التي تقول: إن أجنبياً زار اليابان وأدهشه كثيراً أن أطفال اليابان يعرفون القراءة والكتابة باللغة اليابانية! أما في غير اليابان فإن الموظفين يأكلون مع الموظفين، والعمال يلفطون مع العمال، والمدراء يضربون بالعشرة مع المدراء المبشرين بالجنة! وبعد العمل تستمر العلاقات الشخصية في حانات الساكي ومطاعم السوشي أو حتى في منزل توياما، حيث تجري مناقشة أحدث وسائل السيطرة النوعية على مائدة يابانية تقليدية يتصدرها الرز والسمك وشوربة الأعشاب البحرية. وبالنسبة لليابانيين فإن لعلاقة أي فرد منهم مع الجماعة (ولا أقصد بهم جماعة الإخوان المسلمين) أهمية قصوى في حياته الخاصة والعائلية. وعلى طين الحقل أو أرضية المصنع يُترجم هذا الشعور الشخصي إلى رغبة شديدة في أداء أعلى مستويات الإنتاج والجودة الممكنة لرفع اسم بلاده عالياً أولاً، ولإرضاء رئيسه وزملائه في العمل ثانياً، ولإرضاء نفسه وأسرته ثالثاً. كان رئيس قسم أخشاب القباقيب يلتفت نحوي بين الفينة والأخرى، مبتسماً ومشجعاً لي لأشترك معهم في الحوار «الإستراتيجي». وحين وجدني مشغولاً بقائمة مشتريات هدايا الأهل والأصدقاء تركني لحالي، ثم عاد لي مرة أخرى حين سمع صوتي أحاول جاهداً أن أُفهم النادل حاجتي إلى حبتين من الطماطم مع أسياخ اللحم المشوي، فقال له بالياباني الفصيح «تماتو»!
مشاركة :