أحداث غرائبية من يوميات مسكونة بواقعية سوداء بقلم: علي حسن الفواز

  • 8/19/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

أحداث غرائبية من يوميات مسكونة بواقعية سوداءانعكس الواقع في العراق على الأعمال الأدبية العراقية وخاصة السردي منها، حيث باتت أغلبها تحاول اللحاق بأحداث هذا الواقع المتسارعة والمتشعبة والتي تصل أحيانا إلى درجة كبيرة من التشظي والغرابة. لكن يبقى منوطا بالأعمال الأدبية أن تتابع الواقع أو تنقله بنظرة فنية لا تسقطها في جفاف التأريخ، وهذا ما نجحت فيه بالفعل العديد من الروايات التي حازت رؤى عميقة.العرب علي حسن الفواز [نُشر في 2017/08/19، العدد: 10727، ص(17)]الفيلم ليس محايدا تُثير رواية “فاليوم عشرة” للروائي خضير فليح الزيدي، أكثر من سؤال حول علاقة السرد بالواقع، وعلاقة الأحداث بمصائر الشخصيات، إذ تتحول هذه العلائق إلى “مجالات” متعددة للتأويل، وإلى زوايا نظر خلافية في رصد الواقع ومتغيراته، وفي قراءة مسار ما يتبدى من أحداث ومفارقات، وما تعيشه شخصيات الرواية من صراعات وأزمات وانكسارات. كاميرا الأحداث ترسيم محاور الرواية يتأطّر عبر بنية كلية تقوم على فاعلية الحركة، إذ تتماهى معها حيوات أبطالها، مثلما تبدو وكأنها ناظمٌ داخلي يحكم زمام السرد، ويلاحق مفارقاته الزمنية، على مستوى الاسترجاع والاستباق، وعلى مستوى تركيب نسيجها السردي، فبنية الحركة المهيمنة تتشظى إلى وحدات صغيرة لتكون موازية ومتساوقة مع حركة الشخصيات، تلك التي تندفع بهوس إلى عالمها الغرائبي، لتمارس وظيفتها في الإخبار، وفي تقديم شهادتها المؤطرَة بسياق الوثيقة التي يقدّمها الفيلم. هذه الشخصيات هي أقنعة للواقع العراقي، إذ تعيش رهابه وعنفه وخوفه، ومحنة حاضره، وانكسارات صراعاته السياسية والاجتماعية. البنية الكلية للرواية، الصادرة بالاشتراك بين منشورات ضفاف والاختلاف بكل من بيروت والجزائر، تقوم أيضا على مستويات متوازية، المستوى الواقعي بأحداثه المتواترة وحركته الصاخبة، والمستوى السردي، حيث يبدأ من وثائقية الفيلم الذي يخرجه سلام الوافي العائد من المنفى، ولصالح وكالة جوو الفرنسية، عن وقائع اليوميات العراقية، وعن الجماعة المثلية، وعن “رابطة كفى للانتحار الجماعي”، لكنه يجد نفسه أمام رعب هواجسه، وانكساراته الداخلية، إذ يعيش محنة شقيقه العقيد غسان والمُصاب بالخرس بسبب أحداث الموصل، والمنخرط في رابطة الانتحاريين، وتعقيدات بحثه عن الابن أصيل، وحفظه للمعلومات السرية عن القرص المفقود. للمستوى الأول في الرواية تمثلات تبدأ من خطاب الخليفة، وخطاب الرئيس، وينتهي إلى تصوير حالات التناقض التي تعيشها الشخصيات، والتي تضعنا أمام شفرات الخراب التي هزّت الواقع العراقي، والمستوى الثاني يجد تمثلاته عبر تتبع ما يقدّمه الفيلم الوثائقي من شهادات وأحداث تقوم على ثيمة رصد هذا الواقع، والتعرّف على قصة مجيء سلام الوافي إلى بغداد بوصفه جزءا من بنية الحركة، وعلى “جملة الاستجوابات والإفادات لدائرة المقربين منه”، تلك التي تعكس مساحة كلّ شخصية، ودورها في أحداث الرواية/ الفيلم، وفي الكشف عن بنية التضاد الذي تعيشه عبر تنامي السرد، وعبر فضح مفارقاتها وفسادها. هذه العتبات السردية ترسم للقارئ أفقا غائما، تُديره عين الكاميرا، عبر تتبعها الأحداث، وعبر توغلها في اليوميات السرية لخلفيات المكان العراقي وعلاقاته بالزمن السياسي والزمن النفسي، وبتلك الشخصيات المضطربة، والتي يُبئّر من خلالها الروائي نظرته للأحداث “قمت بنصب الكاميرا في إحدى أزقتهم المتعرجة، لم يتكلم أحد منهم ولاذوا بالصمت خائفين من شيء ما، الكاميرا تصيب بعض الناس بالخرس المبهم، إلا أنّ هوبي أخبرني بالحقيقة المرة، قال لي: انتظرني هناك وسأحكي لك عن حكايتنا”. عوالم إيهامية بقطع النظر عما يُحيل إليه العنوان الرئيس من حمولة سيميائية، فإنّ أحداث الرواية تبدو كأنها خاضعة لسرديات الكاميرا و”فصامية” الشخصية الرئيسة التي ترى تلك الأحداث، إذ يتوازى عبر هذه السرديات المستوى الواقعي بوصفه الفصامي مع المستوى السيميائي، فسلام الوافي الذي يملك مستوى التبئير الأول، يفقد سمة الراوي العليم من خلال قناع هلاوسه، فهو المدمن الذي يعرفه باعة الحبوب المُخدرِة في الباب الشرقي “هو زبون بلّاع توب يدفع بالنقدي والناشف”، حدّ أنّ الفيلم الوثائقي الذي يُخرجه تحت عنوان “لا مناديل لدموع العقيد” يفقد حياديته، ليتحوّل إلى ما يشبه “الشهادة الشخصية” على ما يجري من أحداث غرائبية، ومن يوميات مسكونة بـ”الواقعية السوداء” التي تعيشها شخصيات الفيلم/ وشخصيات القناع الاجتماعي، بدءا من أحداث الموصل، وإصابة شقيقه العقيد غسان بالهلاوس والخرس، وتسرّب القرص المُدمج، وانتهاء بتفجّر ما هو غائر في عوالم تلك الشخصيات، والتي تتكشف عما هو مُضمّر وموحش وقاسٍ في سيرتها وفي ذاكرتها المفجوعة.الكاتب كشف وضع الشخصيات التي تعيش هواجس الفقد والملاحقة أمام مصائرها، وأمام علائقها المتشابكة سردية الهروب عند الشخصيات هي التي تحدد أطر هوياتها، من حيث أنها شخصيات أزمة، وأنّ تمثلاتها تتبدى من خلال علاقتها مع فنطازيا الواقع العراقي، ومع تحولاته المرعبة، إذ يفقد الواقع -عبر تقانة التوثيق- إيقاعه الكرونولوجي الرتيب، ليتنافذ عبر السرد عن “واقع ملتاث بالحركة” تلك التي تشبه الهروب، والبحث الغامض عن مصائر مجهولة. سلام الوافي يعيش أزمته الوطنية بوصفها أزمة شخصية، فإصابة شقيقه العقيد غسان بالخرس، تعني خرس الشاهد الأخير على الهزيمة، وبحثه عن الابن (الأصيل) هو لعبة سردية لمواجهة لعبة الفقد التي عاشتها الإثنيات العراقية، بسبب الاستبداد -هروب المندائية سليمة حنظل بعد اختطاف زوجها من قبل أجهزة الأمن، وبعد تركها ابنها- وبسبب الحصار -عشوائية الشارع وانتشار المخدرات والجريمة- وبسبب الفساد -تسريب “القرص جيم” الذي يحتوي على الكثير من أسرار الإئتمانات المصرفية والأسرار المالية، وفضح الشخصيات التي تستخدمه لمصالحها: المستشار، الحجي، الدكتور ناعم-، وبسبب الإرهاب -سقوط الموصل في يد الجماعات التكفيرية- وتضخم تداعياته النفسية والسياسية والاجتماعية. أغلب هذه الشخصيات تعيش هواجس الفقد والملاحقة، وهو ما عمد إليه الروائي في سياق توظيفه لتقانة البناء المتوازي السردي، بين الحدث والشخصية، وما بين زمن الكتابة وزمن القراءة، وبما يجعل هذه التقانة حافزا على تغذية الرؤية التسجيلية، بدينامية الواقع ذاته، وعلى أساس تشابك الحكاية بوصفه التسجيلي مع الشهادات في الرواية بوصفها الواقعي، وبقصد تأطير صيغ متن الحكاية من خلال مضمونها السردي، ومن خلال وضع الشخصيات التي تعيش هواجس الفقد والملاحقة أمام مصائرها، وأمام علائقها المسكونة بميثولوجيا المدينة العراقية، بكل ما تحملة من ذاكرة معطوبة وفجائع، وكأن سيرة هذه الشخصيات هي ذاتها سيرة تلك المدينة، فالفقد والعجز الذي يعيشه العقيد غسان هما موازٍ لما عاشته مدينة الموصل التي تعاني الفقد والانكسار، وحتى المندائية سليمة حنظل تعيش فقدها المركّب؛ المكان، الزوج، الابن. الوظيفة السيميائية للعنوان، وللعتبات السردية في الرواية، تنفتح على طبيعة المشكلة النفسية التي تعاني منها الشخصية، والتي تتبدى فيها لغة السرد وكأنها تعبير عن تلك المشكلة، فهي لغة ساخرة ومضطربة، وغامرة بالمنولوغات السايكوباثية، حتى تبدو”شفرة” الفاليوم توصيفا لما تعرضه الشخصية، ونزوعها للهروب إلى التعبير عن أزمتها، وهروب الأبطال إلى عوالم إيهامية.

مشاركة :