«عطر الليل» (دار بتانة) للكاتب المصري عمار علي حسن. قصص قصيرة، قد لا تتعدى الواحدة منها المئة كلمة، لكنها تكسر المألوف، وتجاوز المستحيل، وتُحدث الدهشة في نفس قارئ لم يعد الواقع يُحقق شيئاً من رغباته. تتجلى هذه العجائبية في القصة الأولى «حديد ودم»، التي تتحدث عن رفض الإنسان عموماً للحرب والقتل، مع أن هذا غير ممكن في واقعنا، الذي يتغذى على الحروب. وفي قصة «ظل»، ونصها: «مشى متثاقلاً من فرط الهموم والأحقاد، ترنح عند أولى الدرجات، فتناثر ظلّه كشظايا زجاج ضربته العاصفة، وداستـــه أقدام المسافرين»، يعتمد حسن على الابتكار في إقامة علاقات غير ممكنة وغير متوقعة بين الأشياء، وعبَّر عن الحرمان والقهر الداخلي الذي يعيشه بطل القصة، الذي يودّ أن تسحقه الريح ويتلاشى من فرط الهموم، لكنّ المفارقة تأتي حين يتناثر ظله ويبقى هو، رجلاً يمشي بلا ظلّ كأنه شبح. هذا الجوّ العجائبي دفع الكاتب إلى أنسنة الجمادات، في لقطات شاعرية خاطفة، ومؤثرة في الوقت نفسه، مثل قصة «المقعد»، الموجود في عيادة طبية يسمع أنين المرضى ومنهم من ذهب بلا عودة، فيؤجل «المقعد الإنسان» انهياره المحتوم إشفاقاً عليهم. وكذلك أنسنة «الحقيبة» عبر استيائها من إساءة صاحبها لها، على رغم أنّها تحفظ أسراره وتجلس على مقهاه، أو مكتبه، وتعاني من دخان سجائره ورذاذ لعابه، وإزعاج هاتفه، وتكون نهايتها في ركن معتم بالمنزل، أو في صندوق قمامة، فتقرر أن تبحث عن حريتها المغتصبة. ولا تبعد الروح الصوفية بخوارقها عن «عطر الليل»، فنلمحها مثلاً في أقصوصة «عشق»، التي تتناول أثر العشق في الروح والجسد، وتؤكد أنه «لا يشيخ من يجود الزمان عليه بالوصل»، أو أقصوصة «باب ونوافذ» التي يقول فيها: «نام مطمئناً لأنّ للبيت باباً ونوافذ، ولكنه حين استيقظ لم يجد سوى جدران مصمتة، ترخي الظلام على كل شيء، وسمع همساً جليلاً- آن الأوان أن تفتح الأبواب والنوافذ المغلقة داخلك، لترى ما غفلت عنه». تلك القصة التي تقترب من التراث الصوفي، وهو واضح فيها حيث البحث عن الجمال الداخلي، وتربية النفس، للوصول إلى القيم الصوفية العليا. ونجد ايضا أقصوصة «خطبة»، التي تبرز في شكل مادي القبح الذي يخرجه بعض الخطباء الجهلاء على المنابر، من دعوة إلى التعصب، والفتنة. تحمل غرائبية عمار علي حسن في طياتها بعداً رمزياً لافتاً، وهذا ما نراه في أقصوصة «الجنازة»، وهــي تتحدث عن ظالم، يشيعه الناس وهم يتذكرون أفاعيله معهم، ليخرج واحد من بينهم ويبكيه بحسرة، وهو يقول: «كان رجلاً طيباً»، وسط حيرة المشيعين، ثم يكمل أنه في مرة ســـرقه، وهو يضع السكين على رقبته، فاسترحمه أن يـــترك له نقوداً ليشتري بها طعاماً، فأعطاه مما سرقه منه. وهي قصة ترمز الى بعض الشعوب التي تحب ظالميها من الحكام الذين يسرقون قوتهم ثم يعطونهم القليل منه فيشكرهم الناس، على أنهم قد منحوهم ما هو حق لهم بالأساس. ومع غلبة الجانب العجائبي على مجمل قصص «عطر الليل»، فإنّ ذلك لم يمنع وجود قصص واقعية كثيرة، تناقش العديد من القضايا من زوايا جديدة، مثل قضية الظلم، والعدل، والاستهلاكية، والدعوة إلى العمل، وعدم اليأس، وقصص أخرى مسّت قضايا المهمشين في الأرض، والسياسية، والفساد. وثمة قصص عبّرت عن أمثال، وحكم، وأبيات شعرية، راسخة في الذهن العربي، بحيث تنوعت القضايا التي تناولتها المجموعة في 185 قصة قصيرة جداً، ما أثرى المجموعة بأفكار كشفت عن سعة خيال كاتبها واتساع دائرة اطلاعه.
مشاركة :