المبدع العربي والخوف من الوحدة بقلم: حسونة المصباحي

  • 8/20/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

قليلون هم الأدباء والشعراء في عالمنا العربي الذين يستعذبون العيش في الصمت والوحدة ونادرا ما تجد واحدا منهم ينفر أن يكون فحلا وسيدا في المشهد الاستعراضي الكبير.العرب حسونة المصباحي [نُشر في 2017/08/20، العدد: 10728، ص(11)]قاعة فارغة وجمهور غفير (لوحة: ضياء العزاوي) تاريخ آداب العالم يخبرنا أن كبار المبدعين القدماء والمعاصرين مجّدوا الوحدة، وبها تعلقوا تعلقهم بالمعشوقة الموحية إليهم بالكلمات العذبة وبالأفكار الرائعة. وكثيرون منهم اختاروا العيش بعيدا عن الجموع الصاخبة وعن أضواء المدن الكبيرة. ومنهم من فرّ إلى الأرياف والغابات ليكتب ويتأمل ويحلم مثلما كان حال الرومنطيقيين. وفي كوخه الخشبي بـ”الغابة السوداء” بجنوب ألمانيا كان الفيلسوف الكبير مارتن هايدغر يجد متعة في صياغة أفكاره وتنظيمها لتخرج إلى الناس على أبدع صورة. وقد اعترف شعراء وروائيون كبار من أمثال جيمس جويس وصامويل بيكت وخورخي لويس بورخيس وجان جينيه وراينار ماريا ريلكه وآخرون أن الوحدة ضرورية للمبدع، بدونها يفقد القدرة على التركيز والتأمل ويصبح خياله ضيقا ومحدود الآفاق. أما في تاريخ أدبنا العربي فالأمر مختلف. فباستثناء الشعراء الصعاليك الذين فروا إلى الفيافي القفراء وإلى الصحارى الموحشة مفضلين عواء الذئاب على صوت الإنسان، وكذلك المتصوفة والزهاد نحن نعاين أن أغلب المبدعين خصوصا الشعراء يحبون أن يكونوا دائما في قلب المشهد، ومنهم من كان يريد أن يكون لا شاعرا للقبيلة فقط بل قائدها وسيفها ورمحها. لذا هو يعشق أن يكون محاطا بجموع غفيرة لكي يمتحن براعته وقدرته على الإتيان بما يعجب الناس ويفتنهم ويسحرهم. وكانت العكاظيات الشعرية عبارة عن مباريات حامية تنتهي باختيار “الشاعر الفحل” على وزن “الثور الفحل” أو “الجواد الفحل”. أما الآن فقد عُوضت العكاظيات بالمهرجانات وهي وفيرة العدد في البلدان العربية مشرقا ومغربا. وكثير من الشعراء العرب يمضون أوقاتهم وهم يتراكضون لاهثين متنقلين بين مختلف المهرجانات الصغيرة والكبيرة. وقد ينشد الواحد منهم نفس القصيدة التي كان قد أنشدها قبل عام أو أزيد من ذلك، أو هو يركب أحداثا سياسية، خصوصا تلك التي تحدث في فلسطين، لكي يقرأ قصيدة خالية من الشعر وغريبة عنه لكنها تثير الجمهور وتهُيّجه. وكم يتألم هذا الشاعر أو ذاك عندما يحرم من حضور مهرجان في بلاده أو خارجها، وكم يتعذب! فعدم الوقوف أمام جمهور غفير أو حتى في قاعة شبه فارغة يفقده الصواب ويشعره باليتم والوحدة القاتلة. وغالبا ما يهمل مثل هذا الشاعر قصيدته فلا يعتني بها ولا يهتم بصياغتها لكي تحصل على إعجاب أحباء الشعر الحقيقي والأصيل. فما يعنيه بالدرجة الأولى هو المشهد الخارجي. أما الشعر وعالمه الداخلي فلا قيمة لهما عنده. من هنا ندرك سبب اهتمام الكثير من الشعراء العرب بالمهرجانات وعدم عنايتهم بالكلمة التي تولد في الصمت والوحدة. ومن هنا ندرك أيضا سبب ندرة الأعمال الأدبية الجادة وكثرة القصائد الرثة التي تكتب على عجل في فراغ الحياة المقيت. وقليلون هم الأدباء والشعراء في عالمنا العربي الذين يستعذبون العيش في الصمت والوحدة. ونادرا ما تجد واحدا منهم ينفر أن يكون “فحلا” و”سيدا” في المشهد الاستعراضي الكبير. وقد بدأ الراحل الكبير محمود درويش مسيرته الشعرية بقصائد حماسية. لذا كانت تمتلئ القاعات الفسيحة بمحبيه وعشاقه. لكن شيئا فشيئا بدأت هذه الشهرة ترعبه. لذا بات يرفض قراءة قصائده الحماسية مثل “سجل أنا عربي” أمام الجمهور العريض. وفي باريس التي انتقل للعيش فيها بعد أن أمضى سنوات طويلة في بيروت، حيث الحرب والموت والصخب، استعذب الوحدة وعشقها حتى أنه لم يعد يروم الخروج من شقته المطلة على برج إيفل. وفي هذه المرحلة من حياته كتب أجمل قصائده وأكثرها نضجا واكتمالا شكلا ومضمونا. كما أنه أعاد النظر في تجاربه السابقة. فلما استقر به المقام في عمّان ثم في رام الله ازداد عزلة عن الناس وحبا للوحدة والهدوء، مُنْقَطعا عن كل نشاط سياسي ومُنصرفا إلى عالمه الشعري انصرافا يكاد يكون كليا. وفي رائعته الأخيرة “لاعب النرد”، كتب يقول “والسراب كتاب المسافر في البيد.. لولاه، لولا السراب لما واصل السير بحثا عن الماء. هذا السحاب يقول ويحمل إبريق آماله بيد وبأخرى يشدّ على خصره ويدقّ خطاه على الرمل كي يجمع الغيم في حفرة”. كاتب من تونسحسونة المصباحي

مشاركة :