لأن الفلسفة تكره التوقف وروحها روح التجاوز، فإنها لا تحفل كثيرا بالأجوبة القديمة.العرب أحمد برقاوي [نُشر في 2017/08/22، العدد: 10730، ص(14)] أعيش الفلسفة هما كليا وموقفا من العالم وتفكيرا بمشكلاته وتحررا من أي وهم أو ظن، وكتابة عن هذا كله، كما أعيش الشعر حدسا فلسفيا جماليا مستريحا من سلطة المنطق والبرهان. غير أن رحلتي الفلسفية قد تلوثت في لحظة مسارها الأولي بوعي أيديولوجي وجدت نفسي أسير في تياره الذي كان عاصفا في الثمانينات من القرن الماضي، كانت الماركسية حاضرة عندي بكل مظاهرها المعرفية والأيديولوجية، فكانت الفلسفة تنتصر أحيانا على وعيي الأيديولوجي فيما كان الوعي الأيديولوجي ينتصر على فكري الفلسفي في أحايين أخرى. فقد ترجمت بعد وصولي بعامين كتابين يظهران ميولي آنذاك؛ كتاب “من فلسفة الوجود إلى البنيوية” وكتاب “المنطق الديالكتيكي”، كان خيار الترجمة خيارا فلسفيا ولا شك، لكنه فلسفي في حقل ما كنت أنتمي إليه بحيث لم تنفصل عندي آنذاك الفلسفة الماركسية بما هي منهج ديالكتيكي عن المادية التاريخية التي هي الصورة الفلسفية-الأيديولوجية لمفهوم فهم التاريخ وسيرورته. وبعدها أصدرت كتبي “محاولة في قراءة عصر النهضة” و”العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ ” و”أسرى الوهم” و”دفاعا عن الأمة والمستقبل” و”ابن رشد معاصرا”. كانت جميع هذه الكتب تتناول مشكلات حاضرة ومتداولة، ولكني تناولتها بحس نقدي فيه انزياح عن الأفكار المسبقة التي شاعت آنذاك، فكانت نصوص الجابري وصادق العظم والعروي وحسن وغيرهم موضوع نقدي الذي أردته نوعا من التحرر من الخطابات التي اتسمت بنوع من اليقين ذي الرائحة الأيديولوجية. منذ اللحظة التي أنهيت فيها كتابي “العرب وعودة الفلسفة” عام 1999 لمعت في ذهني المشكلة الفلسفية الأرأس التي غابت عن جميع من تفلسف من العرب ألا وهي مشكلة “الأنا” وغيابها عن الوعي الذاتي العربي، فنقلتها إلى المستوى الفلسفي المجرد، في كتابي “الأنا” و كتابي “كوميديا الوجود الإنساني” اللذين قاداني تلقائيا إلى مشكلة الذات التي ليست سوى انتقال الأنا إلى الفعل والحضور في الخارج، وكتابي “أنطولوجيا الذات”، هذه المشكلة الجديدة جعلتني قاتلا نبيلا لكل الآباء. في هذه الكتب الثلاثة اهتديت إلى أم المشكلات في الوعي والتي غابت عن ذهن تاريخ الفلسفة العربية المعاصرة، حتى لدى أولئك الذين جعلوا من الحرية هدفا أول من أهدافهم، أقصد مشكلة غياب الوعي الذاتي بالأنا وحضورها في العالم، بل غياب الأنا ووضعها موضع الذم، وفِي غياب الأنا غابت الذات بالضرورة، لأن الذات هي انتقال الأنا إلى الخارج لتكون فاعلا حقيقيا في العالم. لقد تحررت في هذه الكتب الثلاثة من عادة تلويث النص الفلسفي بالأيديولوجيا، وأنا أبني نصي الفلسفي وأعمقه من جهة وأعمل على دحض المشكلات الزائفة ونصوصها الأزيف من جهة ثانية، ولهذا فإن الأسماء التي تبدو ذات شأن بالنسبة إلى الجمهور لم تعد تعني لي شيئا، بل إن عملية الهدم التي أقوم بها ستطالهم ولا شك، غير عابئين بتكدر خاطر أحد جراء ذلك، إذ لا يمكن أن يقوم فكر جديد وفلسفة جديدة ومنهج جديد إلا بعد عملية هدم وتجاوز للمألوف وللقديم، بل إن استحضار أفكار طواها النسيان وإعادة مدها بدلالات جديدة جزء لا يتجزأ من شغل الفيلسوف. ولأن الفلسفة تكره التوقف وروحها روح التجاوز، فإنها لا تحفل كثيرا بالأجوبة القديمة. كاتب فلسطيني مقيم في الإمارات أحمد برقاوي
مشاركة :