عندما تتحول الواجبات إلى مطالب بقلم: لمياء المقدم

  • 8/24/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الإضافة التي تقدمها مناهج التربية الحديثة هي في الاتفاق والتواطؤ الجماعي على هذه المسؤوليات ووضعها في ما يشبه المنظومة المتكاملة للتعارف عليها مجتمعيا.العرب لمياء المقدم [نُشر في 2017/08/24، العدد: 10732، ص(21)] صحوت كعادتي لأعد له وجبة المدرسة، لكنني فوجئت به يدفعني برفق خارج المطبخ وهو يقول بثقة وحسم “هل نسيت أنني في الصف الثامن، سأعد بداية من اليوم فلاحقا وجبتي بنفسي”. لم أنس بالتأكيد، فهذه المفاهيم الصغيرة، أصبحت تأخذ صبغة شرطية عامة أقوى من أن تنسى، وقد فكرت بالفعل أن أفاتحه في الموضوع، لكنني انتظرت قليلا إلى حين انتهاء الأسبوع الأول من العودة المدرسية، غير أنه فاجأني منذ أول يوم بأنه ينتظر هذه اللحظة وكأنها هدية حقيقة، وما اعتقدت أنه سيصبح واجبا ثقيلا يحتاج تمهيدا وتدرجا ووقتا، اتضح أنه مطلب رئيسي. التحق إذن أصغر أطفالي بالصف الثامن الابتدائي، وهو الصف الأخير من المرحلة الإعدادية الذي يسبق دخوله إلى التعليم الثانوي. الصف الثامن ليس ككل الصفوف، بل هو نقطة تحول محورية في حياة الأبناء، ففي هذا الصف لا يسمح للآباء بإيصال أبنائهم إلى المدارس بل يجب على الطفل أن يأتي بمفرده مستعملا دراجته الهوائية التي تخصص لها المدارس مكانا آمنا لركنها إلى حين انتهاء الدروس، عليه أيضا أن يعد أكله بنفسه في الصباح، فليس من المعقول أن يستمر الأبوان في إعداد أكله ووضعه في حقيبته وهو في الصف الثامن، وما أدراك ما الصف الثامن، الذي من مميزاته أيضا أن يذهب الأطفال في منتصفه أو آخره، إلى مخيم مغلق لمدة أسبوع كامل، ولا يسمح للآباء بالاتصال بهم إلا للضرورة القصوى. أهمية الفصل الثامن لا تكمن فقط في أنه يمثل جسر العبور إلى المرحلة الثانوية، الأهم من ذلك هو أن الأطفال في هذا الفصل يتلقون مادة التربية الجنسية لأول مرة بشكل رسمي، فتشرح لهم مسائل تتعلق بالعواطف التي سيشعرون بها تجاه بعضهم، وبأحاسيسهم الداخلية وكيفية التعامل معها، والتغيرات التي تنتظرهم، وأول قبلة، والدورة الشهرية عند البنات، والبلوغ عند الأولاد، وهو ما يعني بالنسبة إليهم أنهم كبروا ودخلوا مرحلة عمرية جديدة. ولأن مناهج التربية انتبهت لحساسية هذه المرحلة وأهميتها وتطلع الأطفال إليها فقد عمدت إلى الربط بين النمو البيولوجي والجسدي وبين النمو الفكري بحيث لا يستقيم الواحد منهما دون الآخر في فهم الطفل. فأصبحت زيادة المهام والمسؤوليات هي المعادل الواقعي للنمو الفكري والعقلي. وهذا الربط الذكي هو ما جعل الواجبات تتحول إلى مطالب، والكسل إلى نشاط وهمة، فالطفل يريد أن يثبت لنفسه ولمن حوله، وبكل الوسائط المتاحة له، أنه يدخل مرحلة جديدة، وعلى جميع المستويات. وهكذا فقد تحولت الواجبات الصغيرة الجديدة التي تنضاف إلى مهام الأطفال في كل مرحلة عمرية مفصلية، إلى مكاسب لا يفرطون فيها بأي شكل، لأنها صك إثبات النضج العقلي الذي لا يمكن إثباته إلا عبر الالتزام بمهام متعارف عليها اجتماعيا. الإضافة التي تقدمها مناهج التربية الحديثة هي في الاتفاق والتواطؤ الجماعي على هذه المسؤوليات ووضعها في ما يشبه المنظومة المتكاملة للتعارف عليها مجتمعيا، وقراءة دلالاتها قراءة عامة، فلم تترك المسؤوليات الجديدة لخيار الأب والأم كل وفق رغبته، إنما “قننت” ضمن مدلول اجتماعي واحد، فأصبح تجهيز وجبة المدرسة مرتبطا بالفصل الثامن (سن 12)، والعمل في توزيع الجرائد أو خلف الآلة الحاسبة لأحد المحلات، يكون مرتبطا بمرحلة المراهقة (16)، أما قص عشب الحديقة والطبخ مرة أو مرتين في الأسبوع فهو مرتبط بمرحلة ما قبل الاستقلالية (17 و18) وهكذا دواليك. والنتيجة التي يمكن استخلاصها من هذا كله، هو أن تربية الطفل لا تتم في كل مؤسسة من المؤسسات المكلفة بذلك على حدة، أي مؤسسات الأسرة، والمدرسة والمجتمع، وإنما تتم في ظل تكافل وتعاون وتواطؤ هذه المؤسسات جميعها كما لو أن عقلا واحدا يقف خلفها. كاتبة من تونسلمياء المقدم

مشاركة :