مع تصاعد الحرب الكلامية بين كوريا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية في الآونة الأخيرة، عادت المبادرة الروسية الصينية المشتركة لتسوية الأزمة الكورية، والتي تم الإعلان عنها في 4 يوليو/تموز الماضي من جانب وزيري خارجية البلدين، إلى بؤرة الاهتمام الدولي مرة أخرى، باعتبارها إحدى الوسائل الواقعية لنزع فتيل هذه الأزمة، التي وضعت العالم كله على شفا حرب نووية غير مسبوقة، بعد أحاديث أمريكية عن ضرورة توجيه ضربة استباقية إلى كوريا الشمالية، وأحاديث بيونج يانج حول ضرب القاعدة العسكرية الأمريكية في جزيرة جوام.تستند المبادرة الروسية الصينية، التي لاقت تجاهلاً كبيراً من جانب الطرفين الرئيسيين في الأزمة، وهما الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، على «التجميد المتبادل»، أي على أن يعلق الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون إجراء أي اختبارات نووية أو عمليات إطلاق صواريخ باليستية، مقابل تجميد التدريبات العسكرية واسعة النطاق التي تجريها الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، والتي تستغلها بيونج يانج كمبرر لإجراء التجارب على أسلحة جديدة. وفي حالة قبول هذه المبادرة ونجاحها في تحقيق أهدافها، وفقاً للتصورات الصينية والروسية، يتم تشجيع الجانبين، في مرحلة لاحقة، على «التطبيق المتوازي» لإخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية وإقامة آلية دائمة لتحقيق السلام في شبه الجزيرة الكورية.ويفسر المراقبون تجاهل واشنطن للمبادرة الصينية الروسية بأنها تأتي في سياق قناعة لدى الإدارة الأمريكية الحالية، بقيادة الرئيس ترامب، مضمونها أن تشديد العقوبات الاقتصادية على كوريا الشمالية، في الوقت الحالي، من شأنه دفع النظام الحاكم هناك إلى الانهيار، قبل نجاحه في الوصول إلى القدرة على صنع صواريخ باليستية عابرة للقارات يمكنها حمل رؤوس نووية وقادرة على ضرب الأراضي الأمريكية. حيث تتوقع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الأمريكية ألا تصل بيونج يانج إلى هذه القدرة «المخيفة» قبل منتصف عام 2018 أو في بداية عام 2019. كما أن الاستجابة لهذه المبادرة من شأنها أيضاً أن تظهر الرئيس الأمريكي ترامب في وضع القائد الضعيف أمام الرأي العام الأمريكي والعالمي، لظهوره في موقف الإذعان لمطالب بيونج يانج، المتمثلة في وقف التدريبات العسكرية المشتركة مع سيؤول.ومن جهتها، لم تهتم كوريا الشمالية كثيراً بالمبادرة الروسية الصينية، على أساس أنها «هراء» في ضوء عدم وجود أية ضمانات أمنية لها من جانب الولايات المتحدة، التي تحرص على إجراء مناورات عسكرية واسعة النطاق، بغرض الاستعداد للانقضاض على الأراضي الكورية الشمالية بهدف «قطع الرأس» للنظام الحاكم هناك.وربما يكون تجاهل بيونج يانج للمبادرة المشتركة من جانب بكين وموسكو لنزع فتيل الأزمة الكورية هو العامل الأساسي وراء موافقة الدولتين على قرار مجلس الأمن رقم 2371، في 5 أغسطس/آب الجاري، والخاص بفرض عقوبات جديدة تحرم كوريا الشمالية من صادرات تقدر قيمتها بحوالي مليار دولار (ثلث قيمة إجمالي الصادرات الكورية الشمالية)، لإجرائها تجربتين على صواريخ بعيدة المدى في شهر يوليو/تموز الماضي. وقد بررت كل من الصين وروسيا موافقتهما على العقوبات الجديدة على بيونج يانج، بالرغبة في دفع كوريا للحوار السياسي البناء بدلاً من التصعيد الذي قد يصل إلى حد المواجهة العسكرية. فالخط الأحمر الذي رسمته الإدارة الأمريكية الحالية يبدو أن بيونج يانج على وشك تجاوزه، وبالتالي تخشى بكين وموسكو من أن يؤدي تصاعد حدة التوتر بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية إلى مواجهة بالقرب منهما، لا تحمد عقباها. ولعل ما يدلل على هذا موقف السفير ليو جيي، مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة، الذي أكد على أن تشديد العقوبات على كوريا الشمالية لا يستهدف خنق الشعب الكوري الشمالي، وإنما يأتي لدفع بيونج يانج لوقف أنشطتها التي يمكن أن تؤدي إلى تفاقم التوترات بالمنطقة. وبموازاة ذلك طالب الدبلوماسي الصيني الولايات المتحدة بوقف نشر منظومة الدرع الصاروخية الأمريكية في المنطقة، وقال إن نشرها لن يساعد على حل الأزمة. ويشار إلى أن كثيراً ما طالبت روسيا والصين الولايات المتحدة التوقف عن نشر منظومة الدفاع الصاروخي «ثاد» في كوريا الجنوبية، مشيرتين إلى أن هذه المنظومة سوف تكون عقبة رئيسية أمام حل الأزمة الكورية، خاصة أن هذه المنظومة تحد بشكل خطر من المصالح الأمنية الاستراتيجية لكافة دول المنطقة، بما في ذلك الصين وروسيا، كما أنها لا تدعم هدف إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية.ومن جهته، أشاد الرئيس الأمريكي ترامب بمواقف بكين وموسكو المؤيدة لقرار مجلس الأمن الأخيرة والخاص بتشديد العقوبات تجاه كوريا الشمالية، رغم أن الدولتين رفضتا أن يشتمل القرار على خفض إمدادات النفط لكوريا الشمالية، وهي خطوة من شأنها تسديد ضربة خطيرة لاقتصاد بيونج يانج.ويأتي التقارب الصيني الروسي الأخير مع الولايات المتحدة في مسألة تشديد العقوبات على كوريا الشمالية متسقاً مع معارضتهما المعلنة والصريحة لامتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي، ورفضهما للتجارب النووية والصاروخية لبيونج يانج. ورغم هذا التقارب، ليس من المتوقع أن تقبل الدولتان بمنهج التعامل الأمريكي مع بيونج يانج لفترة طويلة، لأن دفع واشنطن النظام الحاكم في كوريا الشمالية إلى الانهيار، من خلال تضييق الحصار الاقتصادي، من شأنه إشاعة الفوضى وعدم الاستقرار على حدود الدولتين، كما أن من شأنه أيضا فتح المجال أمام إقامة نظام جديد في كوريا الشمالية، يكون حليفاً لواشنطن، وبالتالي تهديد المصالح القومية العليا للدولتين. وفي هذا السياق، تنادي الدولتان بضرورة تطبيق الدبلوماسية «الخلاقة» لإيجاد حل سياسي للتصعيد الخطير في هذه الأزمة، مشيرتين إلى أن تشديد الحصار الاقتصادي على بيونج يانج غير مقبول أيضا لوجود ملايين من الكوريين الشماليين الذين في أمسّ الحاجة للحصول على مساعدات إنسانية. كما أن الدولتين، من ناحية أخرى، تدركان أيضا أن العقوبات في حد ذاتها لن تدفع زعيم كوريا الشمالية إلى التخلي عن برامجه النووية والصاروخية، التي يرى فيها الملاذ الوحيد، وربما الأخير، للحفاظ على نظامه، حتى لو تسببت هذه العقوبات في تشديد العزلة الدبلوماسية والاقتصادية على بلاده، وحتى لو أدت هذه العقوبات إلى دفع ملايين من الشعب الكوري الشمالي البائس إلى هاوية الفقر والحرمان.وفي ضوء ذلك، يمكن القول إن تجاهل كل من واشنطن وبيونج يانج للمبادرة الصينية الروسية المشتركة المعروفة بـ«التجميد المتبادل» ينذر بزيادة عدم الاستقرار والفوضى في منطقة شرق آسيا في المدى المنظور، خاصة إذا ما أصرت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية على إجراء مناوراتهما العسكرية المشتركة. والأمل المتبقي للعالم هو أن يتغلب العقل السليم، وأن تبادر الولايات المتحدة في الابتعاد عن خط الخطر، المتمثل في حدوث مواجهة عسكرية في شبه الجزيرة الكورية، لأنها الطرف الأقوى والأعقل، وإلا سوف يشاهد العالم بالفعل «ناراً وغضباً لم يشاهد قط لهما مثيلاً من قبل».د. احمد قنديل * خبير العلاقات الدولية والآسيوية مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية ــ القاهرة a.kandil1974@gmail.com
مشاركة :