ثقافة عربية عابرة للجغرافيات بقلم: عواد علي

  • 8/27/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

أدب المنفى قديم في الآداب الإنسانية ويتجلّى حضوره في ثيمات الاستبعاد والخروج والهجرة القسريّة، ويتّخذ من لحظة النفي علامةً فاصلةً في تاريخ الفرد والجماعة.العرب عواد علي [نُشر في 2017/08/27، العدد: 10735، ص(11)]أهو مهجر عربي جديد (لوحة: ضياء العزاوي) ظهر في السنوات الأخيرة مصطلحا “أدب الداخل وأدب الخارج”، و”مثقفو الداخل ومثقفو الخارج”، خاصةً في العراق، وحاول بعض الكتّاب التقليل من أهمية ما أسموه بـ”أدب الخارج” لأن كتّابه، حسب زعمهم، يكتبون اعتماداً على ذاكراتهم أو ما علق في أذهانهم من صور الداخل، ولم يكتووا بنار الكوارث التي عاشها البلد بعد مغادرتهم، حيث أنهم يعيشون في بحبوحة، فيما يرزح أقرانهم في الداخل تحت ثقل الفاقة والعوز والموت والخراب والدمار. وصار “أدب المنفى”، من وجهة نظر أصحاب ذينك المصطلحين، ملازماً لـ”أدب الخارج” و”أدب المهجر”. لكن الدوافع الحقيقية لهذا التصور المتعسّف، أو الملتبس، هي الغيرة من الكتاّب المغتربين (اللاجئين والمهاجرين) لأنهم يحملون جنسيات بلدان تتيح لهم إمكانية السفر والمشاركة في الملتقيات الأدبية، إضافةً إلى قدرتهم على نشر كتبهم في دور نشر عربية واسعة الانتشار، وتعلمهم لغات تتيح لهم الاطلاع على الأدب العالمي بلغاته الأصلية. وقد أثبت معظم الروائيين والشعراء والمسرحيين والتشكيليين المغتربين أنهم على تماس مع ما يجري في بلدهم، بل إن أغلبهم ناهض الاحتلال وأنتج روايات وقصائد ونصوصاً وعروضاً مسرحيةً ولوحات فنيةً مهمة ذات أنماط وخيارات جمالية وفكرية مختلفة قاربت آلام شعبهم واحتراق بلدهم والكوارث التي لحقت به. * مصطلحات “المنفى” و”الاغتراب” و”الشتات” اليوم مرادفة أو بديلة لمصطلح “المهجر” الذي تلاشى استعماله في العقود الأخيرة بعد تبلور “شخصية المنفى” وتحوله إلى ظاهرة كونية. * أدب المنفى قديم في الآداب الإنسانية ويتجلّى حضوره في ثيمات الاستبعاد والخروج والهجرة القسريّة، ويتّخذ من لحظة النفي علامةً فاصلةً في تاريخ الفرد والجماعة. ولم يسلم الأدب العربي، عبر تاريخه الطويل، من تجربة المنفى الأدبي، فقد شعر الكثير من شعرائه وكتّابه بطعم الاغتراب والبعد عن الوطن، واشتاقوا إلى الأمكنة التي هجروها، لسبب قاهرٍ على الأرجح. تجسّدت معاناة هذه التجربة في صيغٍ كتابيّة متنوّعة، بدءا من طلليّات الشاعر الجاهلي ومروراً بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه. * أدب المنفى اليوم ليس نوْعاً أدبياً بالمعنى الدقيق، بقدر ما هو أدب موضوعاتي يلازمه حدث مهمّ ألا وهو النفي، سواء كان إجبارياً أو اختيارياً. ويغطّي أدب المنفى كل الأجناس الأدبية المعروفة من شعر ورواية وقصة قصيرة ومسرحية، وأحيانًا يتجاوز المتعارف عليه من الأنواع الأدبية الرفيعة، ليُقدَّم في شكل يوميات أو شهادات أو سير ذاتية وغيرية. وهو أيضاً أدب ذو مفهوم مُلتبس وفضفاض وغير قار، يختفي وسرعان ما يظهر مجدّداً في حُلة مغايرة تتلون بألوان العصر وظلاله السياسية والسوسيو-ثقافية، وتبعاً للسياق التاريخي والمعرفي الذي ظهر أو أُنتِج فيه.مصطلحات "المنفى" و"الاغتراب" و"الشتات" اليوم مرادفة أو بديلة لمصطلح “المهجر” الذي تلاشى استعماله في العقود الأخيرة بعد تبلور “شخصية المنفى” وتحوله إلى ظاهرة كونية * لدينا المئات من الأدباء العرب المغتربين المتميزين اليوم، يكتبون باللغات الأجنبية مباشرة، وتختلط في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في أوروبا وأميركا وأستراليا ونيوزلندا، وتجاربهم في الغربة بذكريات نشأتهم الأولي، وهذا المزج والامتزاج هو أهم ما يشكّل أدبهم. بل إن أهم من يميز إنتاجهم الأدبي هو طرح فكرة “الهوية المفتوحة” في سياق العولمة، و”الأنا” و”الآخر” كتبادل للمواقع والمواقف، بوضوح وجلاء. * يعتقد بعض الأدباء العرب المغتربين عن أوطانهم بأن المنفى يحقّق ما يمكن تسميته بالمسافة الجمالية، وهي أمر مطلوب للكتابة، وهي مسافة ما بين الكاتب والماضي وما بينه وبين التاريخ، فالكتابة على بعد من الأشياء توفر نظرة أوضح، بحيث يكون “العقل أبرد، وإن كان لا يزال القلب حاراً”، فالمنفى يوفر رؤية نقدية تأتي من المقارنة بين وضع الآخر أي المواطن في بلد المنفى، وبين وضعه الحالي في المنفى، ووضعه السابق، ما يصل بالبعض إلى النقمة على الماضي، وأحياناً الأوضاع الحالية، فيتحول المنفى إلى موقع لنقد الواقع والتاريخ. * تغيّر مفهوم الحنين في عصرنا الحالي، فوسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات المتطورة جعلت من المنفيّ يعيش الحدث في بلده الذي غادره لحظة بلحظة، وبالتالي الذاكرة تتشوش وتضطرب، والصورة التي خرج بها المنفيّ من الوطن والمثقلة بالعواطف والمشاعر تضطرب، فإذا أراد أن يؤسس لعمل فردي للمكان فإن صورة المكان الذي في ذاكرته تغيرت واضطربت، كونه فقد الكثيرين ممّن أسسوا لحضور هذا المكان في الذاكرة وللأحداث ولتاريخه الماضي، فالحنين “النوستالجيا” بصورته في أدب المنفى أو الاغتراب يتخذ ملامح أُخرى لدى المنفيين في هذا العصر. * قد يكون الأديب بالمعنى المجازي للمنفى منفياً في وطنه… فهل تحول المنفى إلى وطن؟ أم الوطن إلى منفى؟ ربما يغير المنفى إيجابياً نظرتَنا إلى بلدنا الأصلي، فالعلاقة مع ثقافة أخرى، آداب أخرى، تسمح لنا بالنظر إليه بعين جديدة. * يضج أدب المنفى بحمولات نفسية ووجدانية وعاطفية تختزنها مفاهيم الرحيل والحنين والوطن، فتعصف النوسالتجيا برواية المنفى، ما جعل تقنية الاسترجاع غالبة عليها. وهو بعيد عن رقابة سلطة قامعة متحرر من جغرافية ورقابة وسلطة يطل من نافذة الخارج على البعيد ويترنح فيه الروائي بين الهنا والهناك بعدم استقرار، متشبثاً بتلابيب ذاكرة واستدعائها بحس تراجيدي في محاولة لإيجاد توازن مفقود وبوصلة غائبة، ويسعى جاهداً إلى إعادة ترميم ذاته المتشظية بذكريات، مرجعيتها سيرة ذاتية بين ما كان وبين الآن، وبتداخل بين الأزمنة، فيصبح الوطن في وقت واحد مكاناً للجذب بوصفه مسقطاً للرأس وآخر للطرد بوصفه مكاناً للحياة.تغيّر مفهوم الحنين في عصرنا الحالي، فوسائل التواصل الاجتماعي والاتصالات المتطورة جعلت من المنفيّ يعيش الحدث في بلده الذي غادره لحظة بلحظة، وبالتالي الذاكرة تتشوش وتضطرب * يتميز أدب المنفى بغلبة الطابع الإنساني وقيم مثل الحرية والعدالة والانفتاح على الآخر مع رؤى جديدة بين قيم مترسّبة وأخرى جديدة مكتسبة جديدة، في الوقت الذي تتوفر للأديب آفاق معرفية وثقافية أوسع معززة بتفرغ وبتلاقح ثقافي مع بقعة غريبة. * حياة الهجرة والمنفى والترحال ليست مجرد عارض تاريخي طارئ سببه الحروب ورأس المال المتنقل بلا حدود، ولا حالات أزموية يمرّ بها عالمنا، بل هي المصير التاريخي الأساسي الذي انتهى إليه التيه الإنساني، حالة من العدمية الأصلية طالت كينونة الإنسان بسبب اقتلاعه من الأرض التي تشبّث بها طوال القرون السابقة، فالقرن العشرون وما بعده هو زمن الاقتلاع واللاتجذّر في أيّ أرض، وفي هذا الصدد يرفع إدوارد سعيد زمن الاقتلاع إلى مقام الرؤيا الفلسفية في تشخيص المرحلة التاريخية التي يعيشها عالمنا فيقول “إنها ظاهرة تمتد على كامل الكوكب وتثير اهتمامي بشكل عميق، نحن نعيش في حقبة الهجرة، في زمن السفر القسري والإقامة القسرية، وهي ظاهرة تضم الكوكب بكل ما في الكلمة من معنى”. * مع كل منعطف تاريخي أو ثورة سياسية أو اجتماعية أو علمية أو تقنية أو فكرية، ومع كل كارثة طبيعية أو من صنع البشر فإن الأدب ينفعل ويعيد النظر بشكله ومنطقه ولغته وأساليبه وأشكاله. لذا كان لما سمّي بـ”الربيع العربي” تأثيره في الأدب العربي، فقد كانت ثورات الربيع العربي زلزالا قوّض أركان دكتاتوريات عسكرية وأنظمة استبدادية شمولية، غير أنها أخرجت الغث أيضاً من أحشاء الواقع، وكان ما كان من نذر التعصب والشر والفوضى والفساد والإرهاب والتي تجسدت في قوى ومؤسسات ومصالح متضاربة ومؤامرات. ومثل هذه الأحداث الجسام أثّرت كثيراً في الأذهان، في القناعات والرؤى والمواقف والسلوكيات والأدب والفن، لكن التأثير كان ذا حدين، إيجابيا وسلبيا، فإذا كان الحد الإيجابي يتمثّل بتحرر الكتّاب من القيود وحصولهم على متنفس واسع للإبداع والنشر وصارت أحداث الثورات نفسها مورداً خصباً للتعبير وإثراء المشهد الأدبي بمواضيع كانت بالأمس محرماً الخوض فيها فإن الحد السلبي تمثّل بانهيار الذوق العام في استخدام اللغة وظهور مجموعه من المرتزقة مدّعي الثقافة، ومحاولتهم قلب القيم الأصيلة في الأدب لتحويله إلى أدب إثارة غرائز وأدب تجاريّ بغرض الربح. * ما يسمى بثورات الربيع العربي خلّف واقعا تتغشاه الضبابية، إن لم نقل الإحباط بعينه، إذا ما علمنا أن أدب أيّ أمّة هو إعادة إنتاج لواقعها الاجتماعي والسياسي والنفسي والاقتصادي، بعيداً عمّا تفرضه الحالة الآنية لأيّ كاتب عندما يكون في حالة توتر كتابي، فالفوضى التي خلفتها هذه الثورات في بلدان هذا الربيع الدامي ألقت بظلالها وحملها الثقيل على كاهل جميع الكتاب الذين يسيرون مع أو ضد ما حصل وما يحصل، فمشاهد الدمار والخراب والدم المسفوح حتما تشكل المادة التي يستقي منها الكاتب ثيماته، وهي ثيمات تغلب عليها سخرية سوداء من آمال أقرب ما تكون إلى أوهام عاشت في مخيلة جيل كان ينتظره تفتح زهور الربيع بدلاً من تعملق غول الدمار والخراب الذي حتما سينعكس سلبا على الإنتاج الأدبي العربي برمّته. وإذا كان ثمة أمل شفيف فإن البعض ربما يتريث في رسم المشهد الذي يريد، لعل الأيام تأتي بجديد يجعل القلم نشواناً بما يملي عليه خياله حتى ولو من باب التمني. كاتب من العراقعواد علي

مشاركة :