ثلاثون عاما وحنظلة مايزال قمر فلسطين الدامي بقلم: علي حسن الفواز

  • 8/29/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ثلاثون عاما وحنظلة مايزال قمر فلسطين الداميتمر هذه الأيام الذكرى الثلاثون لاغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، الذي ترك ما يقرب من أربعين ألف رسم كاريكاتوري تميزت بنقدها السياسي اللاذع ووقوفها كمقاومة فنية لاحتلال وطنه فلسطين. رحل العلي وبقي رمزا فنيا خالدا وأيقونة لا يطالها النسيان.العرب علي حسن الفواز [نُشر في 2017/08/29، العدد: 10737، ص(15)]مقاومة بالفن استعادة ناجي العلي القتيل، والعالق مثل قمرٍ دامٍ في الذاكرة الفلسطينية، تعني استعادة لكثيرٍ من تراجيديا تلك الذاكرة، القتيلة، أو الممحوة، فهي استعادة لسفرٍ طويلٍ من الخداع والضياع والمتاهة، وللجرح العربي المفتوح منذ أكثرِ من نصف قرن، وربما -هي- استعادة ثقافية لم تعد صالحة لزمن “الهويات المقتولة”، إذ ظلت تمارس ضلالها وعتمتها وتوحشها على طبيعة الخطاب الثقافي والثوري، وربما هي -من جانب آخر- استعادة قاسية لوجعٍ تاريخي ظلّ يمسُّ المكان والفكرة، واللغة، ويمسُّ القضية أيضا. كان الرجلُ القتيلُ حالما، أكثر مما هو شاهدٌ على ما كان يجري، الأرضُ لديه لوحةٌ وقصيدة أو حكاية، كلُّ ما فيها يتشكّل عبر وعيه الصاخب والمتسائل والشكّاك. لحظاته الفلسطينية الشاحبة، والمطرودة، ليست بعيدة عن هذا الصخب، فهي مسكونة بمراثي المنفى، وبشغف البحث عن معانٍ خارج تلك “الكوميديا السوداء” وعن ملامح وطنٍ يمكن تداوله، وعدم الغشِّ في أوراقه الثبوتية. ناجي العلي المثقف المُلتَبِس، يدركُ جيدا أنّ لعبة الكتابة لا تكفي وحدها لاستعادةِ الوطن الغائب، وحتى الأصوات والأسماء والأفكار التي كان يشتبكُ معها دائما لا تكفي -هي الأخرى- لتصنعَ فكرةً واضحةً عن وطنٍ يمكنه أنْ ينام تحت القميص، أو عن لحظةِ وعيٍّ فارق تصلحُ لتجاوز العالم الفجائعي الذي يؤرقه، لكنه -رغم كل هذا- عايش بنوعٍ من الاستيهام والقسوة هذا الوطن الغائب، واللواذ بلحظته المعطوبة، واستعادتهِ مثل نصلٍ غاطسٍ في الروح… موتُ الحلم الذي كان هاجس الرعب عند العلي، تحوّل إلى موت “قومي” فادح، فهو لم يعد موته الشخصي، ولا حتى غضبه إزاء فضائح الخيانة. أحسب أنّ هذا الموت العلني كان سبب تحريضه نحو التمرد، وممارسة ثقافوية الاحتجاج، وعلى تغيير زاوية النظر إلى التاريخ، والثورة، والكفاح المسلّح، وليجد في شخصية “حنظلة” قناعه الأثير، وصوته الدامي، واستعارته الكبرى في تسويق ذلك الاحتجاج، إذ تَمثلهُ بوصفه قوة خفيةً، ورمزا له شفرات ما يملكه من وعيٍّ شقي، لكي يكون أكثر اندفاعا إلى مواجهة ما يحدث في السرِّ والعلن. حنظلةُ صار هو الرائي، وهو المُحدّقُ أبداً في العتمة، والمدوّرُ بغموضهِ مثل كائن فنتازي. يرقبُ العالمَ من حوله بصمتٍ فاجع، وهو المسكون بالأصوات، والهواجس، يجاهرُ ويشاهرُ عبره بالمرارة، تلك التي سرعان ما تحولت إلى خازوقات عميقة، وإلى أسئلة أو مواقف أو رؤى أكثر فجائعية. تحوّل ناجي العلي تحت هذه “الخازوقات” إلى كائنٍ غير صالح للاطمئنان، غير صالح للحوارات المغشوشة، أو غير صالح لوهم الوطن الاستهلاكي، الوطن المرمي أبدا على الطاولة، والمبعثر في الأراشيف، أو في ذاكرة المحررين أو عند حسابات السياسيين. صلاحية ناجي تحولت إلى مواجهةٍ للداخل، إلى تقصّي وجعه الداخلي، وإلى مبادلة صمته بصراخ حنظلة الذي تختفي ملامحه، إذ تتحول هذه المواجهة إلى لعبة مكشوفة في القسوة، قسوة أنْ لا يطمئن إلى الوضوح، إلى المكان، المكان بكل تفاصيله وشجونه، لذلك ظل ناجي العلي يكرر لعبة اللجوء إلى الرصيف، إلى المقهى، إلى البرد. ربما يعثر على وطنٍ تجريبي، وطن تعويضي، وطن بصلاحيات كاملة، وطن يبحث عن وضوحه. عند عتبات الرصيف، والمقهى قُتل ناجي العلي، وظل حنظلة يمارس قسوة الرؤيا، وهاجس الانتظار، يحمل غموضه دونما رقيب ليمارس طقوس النقد والفضح، وتعرية كل أسباب الخيانة والخذلان والخوف والاستبداد، مثلما ظل في الأخرى يبكي وطنا ضيّعه الآخرون.. نزوح ناجي العلي خارج الأمكنة المكررة، والتصاقه بيوميات أرصفة المنفى، كانا تمثلا لتاريخ طويل من النزوحات، من فلسطين إلى بيروت إلى الكويت إلى المنفى، وإلى فضاء الكاريكاتير، حيث هو الخيار الأقسى، إذ يضع حنظلته بمواجهة كل القسوة، وكل الخيانة، الذي لا يلبس سوى عريه، وسوى أنْ يكون واقفا دونما وجه أو وضوح ليُبصرَ بهواجسه وحدوسه العالم وهو يمارس المزيد من صناعة الرعب والقسوة والموت، الموت الذي اغتاله برصاصاتٍ صديقةٍ أو عدوةٍ. المهم أنها أراحته من عبث ذلك الوضوح المرعب، والوجود العابث، والأسفار التي ظلت تساكنه بأوديسات الأرصفة والمقاهي.

مشاركة :