«فاني وألكسندر» لإنغمار برغمان: على حافة السيرة الذاتية

  • 8/31/2017
  • 00:00
  • 13
  • 0
  • 0
news-picture

لئن كان من الطبيعي أن يرتبط اسماهما برباط «سينمائي» وثيق طوال النصف الثاني من القرن العشرين، باعتبارهما من كبار السينمائيين الأوروبيين الذين كان للتعبير الذاتي مكان أثير لدى كل منهما وكلّ على طريقته. ولئن كان من الطبيعي انطلاقاً من هذا ألا يذكر اسم أو عمل الواحد منهما إلا مقروناً باسم وعمل الثاني، فإن الغريب في الأمر هو تلك المصادفة، المؤسسية على أي حال، التي جعلتهما يرحلان معاً عن عالمنا في عام 2007 بفارق يوم واحد بينهما، بحيث أننا ما إن تحدثنا في اليوم الأول عن رحيل أولهما حتى وجدنا أنفسنا نتحدث في اليوم التالي عن رحيل الآخر. وهما بالطبع إنغمار برغمان السويدي الذي جعل لسينما بلاده مكانة أساسية على خريطة السينما العالمية، والإيطالي ميكائيل آنجلو أنطونيوني الذي يعتبر واحداً من ثلاثة أو أربعة مبدعين سينمائيين رفعوا الفن السابع إلى مقام أرقى الفنون وأكثرها تعاطياً مع جوّانية المبدع. ونتوقف هنا عند السويدي من خلال واحد من أفلامه المميزة، «فاني وألكسندر» الذي، كدأبه في إنتاجات سنواته الأخيرة، حقق منه نسختين أولاهما لصالات السينما في نحو ثلاث ساعات، والثانية على شكل مسلسل تلفزيوني في ست حلقات يبلغ طول كل منها نحو ساعة من الزمن. > منذ بداية عمله على هذا الفيلم، بداية الثمانينات من القرن العشرين، لم يتوقف برغمان عن إعلان أن هذا الفيلم سوف يكون فيلمه السينمائي الروائي الطويل الأخير، لكننا نعرف بالطبع أنه عاد وحقق من بعده أعمالاً تلفزيونية عدة تحوّل بعضها إلى عروض سينمائية، كما نعرف أنه خلّف عدة سيناريوات حققها مخرجون آخرون ومعظمها، كما حال «فاني وألكسندر» مبنيّ بشكل أو بآخر على فصول من حياته العائلية ولا سيما حياة والديه، وكأنه آثر في أفلامه ونصوصه الأخيرة أن يخرج من ذلك النوع من «السيرة الذاتية الجوّانية» الذي ساد بعض أهم مرحلة نضوجه من حول «الصمت» و «عبر مرآة قاتمة» و «أضواء الشتاء» ليصل إلى ما يقرب من السيرة الذاتية البرّانية، أي تلك التي تقدّم الأحداث بأكثر مما، أو بقدر ما، تقدم الأفكار والهوامات الجوّانية. ومن الواضح أن «فاني وألكسندر» ينتمي إلى هذا النسغ، حيث قال دارسو حياة المبدع السويدي الكبير ومؤرخو أعماله، أن الفيلم، رغم عدم اتساق زمنه التاريخي مع الزمن المرتبط بحياة برغمان، يكاد يكون سرداً لجزء من طفولته هو نفسه وطفولة أخته مرغريتا مع قدر لا بأس به من التعديلات. > مهما يكن من أمر، لا بد من الإشارة هنا إلى أن أحداث الفيلم تدور في أجواء مزدوجة طبعت حياة وسيرة برغمان نفسه: جو المسرح من ناحية، وجو الكنيسة اللوثرية الصارم والمتقشف من ناحية ثانية. فالفيلم يبدأ في عام 1907، ليتواصل حتى عام 1909 مع ملحق يدور في عام 1910. أما المكان فهو مدينة أوبسالا حيث يعيش ألكسندر مع أخته فاني ووالديهما العاملين في المسرح المحلي عيشاً سعيداً محاطين بعائلة تتكون من ظرفاء وفنانين وفوضويين، هي عائلة إيكدال التي تحيط بالأب الحنون أوسكار والأم الطيبة، إنما القلقة دائماً، إيميلي. ولقد كان من شأن تلك السعادة أن تتواصل لولا أن الأب أوسكار يموت فجأة ما يؤدي إلى دمار كل شيء فهو كان سند العائلة ومعيلها والرابط بين أفرادها. ولعل أسوأ ما في الأمر كما سوف يتبين لنا بعد قليل هو أن الأم بعد رحيل زوجها تضطر إلى القبول بالزواج من الأسقف المحلي إدوارد الذي كان قد ترمّل بدوره، وذلك في مسعى منها لتأمين عيش طفليها. وهي تنتقل بهما بحكم ذلك الزواج للعيش في دارة الأسقف المتقشف والصارم، حيث يعيش مع أمه التي ستتكشف قسوتها لاحقاً ومع أخته وعدد من الخادمات. > في الانتقال للعيش في ذلك البيت ومع تلك الصحبة، سيكتشف الطفلان بسرعة أن سعادتهما ماتت تماماً مع موت الأب واختفت مع الانتقال للعيش مع هؤلاء الناس. أما الأم إيميلي، فإنها ستبدو الأكثر إصابة بالخيبة هي التي كانت تعتقد أن الزواج من الأسقف لن يفقدها أي شيء من الحياة الحلوة التي كانت تعيشها. فتكتشف بدورها أن كل حساباتها كانت مخطئة. ومن هنا تبدأ نوعاً من حياة قاسية صارمة فجة سيكون ألكسندر أول الثائرين علناً عليها، ما يخلق برودة مرعبة في العلاقة بينه وبين زوج أمه. بيد أن تلك البرودة سرعان ما تتحول عداءً صارخاً يصدر على أثره الأسقف أوامر باحتجاز الطفلين من دون السماح لهما بمبارحة البيت ثم الغرفة على رغم توسلات الأم واحتجاجاتها. لكنها في الحقيقة من الضعف بحيث لا يمكنها أول الأمر أن تساهم مساهمة حقيقية في إنقاذ طفليها، ليس فقط من براثن الأسقف بل كذلك من براثن أمه التي لا تقل قسوة عنه. ولعل ما يزيد الطين بلة هو أن إميلي تكون قد حملت بطفل جديد من هذا الزوج العنيف القاسي ما يزيد من حيرتها. ومع هذا ها هي تصمم على التخلص من تلك الحياة التي لم تكن تتوقعها، وذلك بعد أن تهرب من البيت لاجئة إلى والدة زوجها الراحل وإلى عدد من الأصدقاء الذين سرعان ما يساعدونها على إنقاذ الطفلين. ثم حين يحدث شيء من الهدوء وتحكّم إيميلي عقلها وتعود إلى بيت الزوجية سينتهي بها الأمر إلى التسبب في موت الأسقف عبر نصحه بتناول كمية من دواء أُعطي لها. لكن هذا، قبل موته يقسم أنه سوف يدمرها وولديها، كما أن أمه على رغم احتضارها تحاول تدمير تلك الأسرة الصغيرة التي كان ولداها قد لجآ إلى بيت الصديق الذي ساعد على تهريبهما من بيت الأسقف. > غير أن تلك الحالة العائلية المريرة التي من الواضح أن برغمان شاء من خلالها أن يقدم صورة، ولو مواربة، للتناحر بين سماحة الفن وصرامة الكنيسة، سوف تنتهي نهاية أقرب إلى السعادة، أو بالأحرى نهاية تتحدث عن انتصار الفن على الصرامة الكنسية. وذلك بالتحديد لأن الجدة الأصلية، هيلينا أم الزوج الأول الراحل أوسكار، وهي في الأصل كمعظم أبناء عائلة إيكدال، سيدة مسرح، تكون هي الوريثة الشرعية للمسرح العائلي الذي تركه ابنها برحيله. ومن هنا، بعد عودة إيميلي من «غيبتها» المرعبة في بيت الأسقف، تستقبلها بالترحاب وقد قررت أن تعيد المسرح إلى حياته، وبالتحديد من خلال تقديم مسرحية لأوغست ستراندبورغ، الذي كانت إيميلي تتهمه في الأصل بنزعة ذكورية قاسية، وهي بالتحديد «مسرحية حلم». وهكذا ينصرف الجميع للإعداد لتقديم المسرحية كنوع خفي من تنفيذ وصية أخيرة للأب الراحل أوسكار، وكنوع من الاحتفال بعودة السعادة إلى تلك العائلة الصغيرة بعد الظلمات التي مرت بها. أما المشهد الأخير في الفيلم، بنسختيه التلفزيونية والسينمائية، فإنه يحمل دلالة هامة بالنسبة إلى ألكسندر، الذي تشير إمارات كثيرة إلى أنه سيكون لاحقاً إنغمار برغمان نفسه. ففي المشهد نرى هيلينا، الجدة المسرحية الطيبة، وهي تقرأ لألكسندر وهو يحاول أن يغفو في سريره، مقاطع من تلك المسرحية في محاولة منها لاكتشاف ما إذا كان مسرح سترندبرغ مسرحاً ذكورياً حقاً... ما يمهد بالطبع لانخراط الفتى في اللعبة المسرحية من ناحية، وفي التفكير من حول قضية المرأة من ناحية ثانية. > مهما يكن من أمر، على رغم التقدير العام من قبل النقاد لهذا الفيلم، وعلى رغم النجاح التجاري الكبير الذي كان من نصيبه ولا سيما بعد فوزه في عام 1983 بأربع جوائز أوسكار في هوليوود من بينها أوسكار أفضل فيلم أجنبي، فإن فيلم إنغمار برغمان (1918-2007) هذا أثار سجالات نقدية حادة، حيث رأى فيه بعض النقاد التباساً في الموقف، وخطّية غير مقنعة في توزيع الأحكام الأخلاقية بين من هم أهل الفن ومن هم أهل الكنيسة. غير أن تلك السجالات خفت صوتها مع الوقت، وبمقدار ما، راح الفيلم يتحول ليصبح واحداً من كلاسيكيات السينما العالمية، ناهيك بتحوّله كذلك إلى نوع من المرجعية بالنسبة إلى سيرة إنغمار برغمان نفسه، إسوة بالقسم الأكبر من أفلامه التي يمكن للنقد أن يقول عن متنها الإجمالي أنه يكاد يكون سيرة متكاملة لذلك المبدع الذي كان استثنائياً في الحياة الثقافية والفنية لبلده.

مشاركة :