الحرية مرهونة بالقانون والنشاط الإنساني بتعقيداته الاجتماعية والثقافية دائماً، وأخطر ما في الحرية تحقيق التوازن بين الحرية الاجتماعية والسياسية، وعلى هذا الأساس لا يمكن تصور قيام الحرية بصورة مثالية من دون قيود وحدود تفرض عليها من الدولة. بل الحرية بوصفها واقع عملي تمثل قيوداً على سلطات الدولة بالتصرف في مواجهتها. وجاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في بداية الثورة الفرنسية عام 1789، حول تعريف الحرية بأنها «حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين» وأن الحدود على الحرية لا يجوز فرضها إلا بقانون. ثم سرت مفاهيم الحرية إلى بلاد المسلمين وأخذوها بمفاهيم الغرب بعيداً عن المفهوم الشرعي لها، وقد استقر فقه القانون الدستوري على عدم التعارض ما بين الحرية والتنظيم، بل إن التنظيم هو الذي يعطي الحرية المناخ الملائم والتربية الصالحة لممارستها. وقد أدى انتشار المذاهب الاقتصادية المعاصرة إلى تعميق مفهوم الحرية، كما ارتبط مفهوم الحرية بالمساواة تحقيقاً لمبدأ تكافؤ الفرص، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أكد هذا المعنى بقوله «لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي» مسند الإمام أحمد بن حنبل، بمعنى أن هذا المبدأ أصيل في الإسلام. والذي يهمنا هنا معرفة مفهوم الحرية في الإسلام بعيداً عن مفهوم الرأسمالية الذي وضع آلة التقديس للفردية، وانطلاقتها في عالم الماديات البهيمية! أو على النقيض منها المذهب الثاني الذي ضحى بالفرد ليذوب في مصلحة المجموع لكونها الممثلة للمصلحة العليا التي يجب أن يضحى في سبيلها بالمصالح الفردية حتى غدت الشعوب الاشتراكية على نسق واحد في المساكن والملابس والسيارات. الإسلام نظم الحرية وصححها: وجاءت الممارسات في المجتمع الإسلامي لتؤكد هذا المعنى، فجاء الإسلام بتحرير العبيد وفك الرقاب، وجعل ذلك من أفضل القربات إلى الله تعالى وجعلها كفارات لبعض المخالفات. وخاطب الإسلام العقل البشري، من حيث هو عقل بالعلم والهدى والنور، وهي مفاتيح الحرية الحقيقية بعيداً عن الإسفاف. وجاءت شرائع الإسلام وقواعده وأخلاقه متسقة مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها. كما قضى الإسلام على مفاخر العرب في الجاهلية، مثل الخمر والربا والزنا والعدوان، فقال الله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ» الحجرات: 31 وجاءت أحكام الشريعة في العدل والمساواة في الكرامة البشرية لتناسب كل الظروف والأحوال، وهذا سر من أسرار خلود الشريعة وبقائها على مد العصور، وهذه الأحكام لا تخضع لهوى ولا تتصل بحاكم أو تتغير بقانون طارئ. وجاء علماء الأصول في الإسلام ووصفوا المقاصد الفردية والجماعية والتحسينية التي راعاها الشرع، كما راعى علماء الإسلام، الحرية. كذلك شرحوا الحق، ووضعوا توابعه ولوازمه واعتبروا الحرية نوعاً من أنواع الحقوق. وأوضح السنهوري في «مصادر الحق في الفقه الإسلامي»، أن فقهاء الإسلام استخدموا لفظ الحق في بعض الحالات بمعنى اشتماله على كل الحقوق المالية وغير المالية. وكذلك حقوق الاتفاق أو ما ينشأ من العقود من التزامات، على اعتبار أن ذلك كله من الحريات. وبين بأن حقوق الله تعالى لها من الاتساع بحيث يلتقي عندها الدين والشريعة مع أحكام القانون العام والجنائي مع القانون المالي. وحقوق العباد هي من القانون الخاص، كما أن حرية الإرادة وسلطانها في الشريعة مقيدة بضمانات حتى لا تخرج عن مسارها الصحيح. فليس الإنسان حراً في أن يستعمل حقوقه كيفما شاء، وإنما هو مقيد بما لا يعود بالضرر على الآخرين أو يضعف أصلا من أصول الشريعة أو يخل بالأمن العام للجماعة أو الآداب أو من شأنه الإرجاف في الأرض. وأعتبر الشيخ علي الخفيف في كتابه «الملكية في الشريعة الإسلامية»، الحرية بمعناها الواسع، «مما يعد مكنة أو إباحة يسمح بها القانون في نطاق الحقوق العامة».
مشاركة :