كان الموت ولا يزال واحدة من أبرز القضايا التي تشغل تفكير الإنسان، كونه يمثّل خاتمة الحياة لكل مَن يعيش في الدنيا، ولا سيما أنّه على تماسّ مباشر مع الأحياء، يتهرّب البشر من التفكير بالموت؛ ليحافظوا على سعادتهم، ولكن أية سعادة هذه التي يمكن أن تنتهي بضربة واحدة من ضربات القدر؟ لتنكشف عن لبّ منخور، فهو يغتال النفوس كلّ يوم ولأسباب متنوعة، ونحن على مسمع منه ومرأى ننتظر الدور لا أكثر. تجربة الموت تجربة صعبة للغاية مهما كانت درجة إيماننا، وخصوصاً عندما تمس شخصاً عزيزاً علينا، ولكن الأصعب عندما تشعر بأن الموت يقترب منك أنت. إنَّ المُسيطر على وعينا وفهمنا لموضوع الموت هو خوفنا ورعبنا السحيق منه، فقد عشتُ تجربة قاسية عندما اختطفَ الموت قريباً لي، وهذا ما ألهمني للتأمّل في فكرة الموت الأبدية والكتابة عنهُ. إن فكرة الموت وتذكّر الموتى تثير شعوراً بالرعب الوجودي يُمكن أن يُصيب صاحبه بالشلل النفسي والوجداني؛ لأنه يذكرنا بمصيرنا المجهول، رغم اقتناعنا بأن الموت هو النهاية الضرورية لكل حياة، وأن كل فرد منا عليه دَين تجاه الحياة، لا يمكن رده إلا بواسطة الموت، وما علينا إلا أن نكون مستعدين لرد هذا الدَّيْن، كون الموت ظاهرة طبيعية لا تقاوم، ولا يمكن لأحد أن يتهرب منها، فمُهمة الموت إعادة أمانة الجسد إلى التراب. إنّ الوعي بالحياة لا يتحقق ولا يكتمل إلا بالوعي بالموت، فالموت ليس محض مفاجأة مؤجلة أو حدثاً ختامياً، بل هو مخبوء في ثنايا وجودنا المشدود، يعبر منها السالك بين خيط المهد وإبرة اللحد، وهو الحتمية الوحيدة التي ظلّت تُذكر الإنسان، منذ فَجْره وإلى قيامته، بمحدودية وجوده الشخصي وبهشاشة تكوينه، بحقيقة كونه عابراً وزائلاً وهامشياً في دفتر التاريخ. يا أنتم، أخبر الناس أنّ على كل حي أن يستعد للعبور، فالموت ذروة الحياة تختفي عند قممها الثنائية، تتجلّى الوحدانية فتتوحَّد الروح مع أصلها ومصدرها بحميمية، وأن القبر ممر إلى حيث البقاء وبوابة يعبر منها السالك داخلاً محرابه الأبدي. فإن لم نمُت اليوم نموت غداً، وإن لم نجرب الموت فقد تجرعنا مرارته، أنا هنا لا أستدعي مرارة من فقدت وليس هدفي إثارة أحزان، أو إثارة الحسرة في قلوب أذابها الحزن كمد بفقد الأحبة، لكن الهدف هو التبيان أنه ليس في هذا الوجود إنسان لم يذُق ألم الموت وإن لم يجربه، فالموت أحد الأشياء المشتركة بيننا وإن اختلف الظرف والزمان والمكان، ومهما يكن من خطوب ومصاعب تواجه البشر في حياتهم فإنَّ الحياة تبقى هي النبع المتدفق دائماً بالأمل. فالموت أمام مد الحياة قوة ضعيفة كما يخاطب سيد شقيقته، قائلاً: "إن فكرة الموت لا تزال تخيل لك، فتتصورينه في كل مكان ووراء كل شيء وتحسبينه قوة طاغية تظل الحياة والأحياء، وترين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة، إنني أنظر للحظة فلا أراها إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الظافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات". لماذا يصاحب الموت دوماً الحزن؟ يقول المهتمون بعلم النفس: إن سماعك خبر موت شخص تعرفه يمر بعدة مراحل، أولاها عدم التصديق، أي أنك تستنكر كلام الذي يبلغك الخبر وترفضه في اللحظات الأولى، ثم الصدمة، ثم البكاء. إن العديد من الباحثين في الظاهرة السيكولوجية للموت والافتقاد يوافقون على أن الأسى والحزن ضروريان، ومع أن بعض الناس قد يتعاملون تعاملاً ناجحاً مع المشاعر المتعلقة بالافتقاد والحزن، فإن خسارة بعضهم الآخر قد تكون دائمة ويعيشونها باستمرار، وأن جميع الناس يمرون بحالة الأسى والحزن بالدرجة نفسها، لكنهم لا يمرون جميعاً بالمراحل نفسها وعلى الترتيب نفسه. لذلك هناك أناس من شدة حُبنا لهم يصعب علينا الاقتناع بفكرة رحيلهم، أو على الأقل نقنعُ أنفُسنا بأنهم ما زالوا أحياء في وجِداننا، فهم جزء من ذاكرة المكان والزمان. فالحزن على فقد مَن نحب أمر فطري مركب في طبيعة الإنسان، ولكن لنجعل من هذا الحزن جمالاً واحتفاء في إطار الحياة التي نعيشها والمعاني السامية والأهداف والغايات التي تزدحم بها حياتنا المهددة بالموت، فما جدوى فكرة الموت إن لم تضِف إلى رصيد البشرية بُعداً جديداً فاعلاً تتقدم فيه الحياة إلى الأمام للمزيد من الانفعال والتفاعل والإنتاج الوجودي؟ ما جدوى فكرة الموت إن لم تضِف لنا أبعاداً جديدة نتقرب بها إلى الله ونزداد معرفة وخشية له؟ إننا قد نتقبل فكرة الوجوديين القائلة بأن قبول الموت يرتبط ارتباطاً وثيقاً باكتشاف معنى الحياة وغايتها، ومن أقوال قدماء الإغريق بهذا الصدد: "تأمّل الموتَ وتوقّعه إذا أردت أن تتعلم كيف تعيش". وإلى أرواح مَن فقدنا سلام من الله عليكم ورحمات تتنزل عليكم في الجنان، ورضوان من الله. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :