برتولت بريخت.. كابوس الطغاة

  • 9/4/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يوسف أبو لوز قبل أيام مرّ واحد وستون عاماً على رحيل المسرحي والشاعر الألماني برتولت بريخت (10 فبراير 1898- 14 أغسطس 1956)، وهي مناسبة للعودة إلى حياة رجل كان يرتدي معطفين، ولم يخرج على طريقة الروسي غوغول من معطف أحد. والمعطفان هما الشعر والمسرح بمحمولات فكرية سياسية فلسفية، بل هي سياسية أكثر من أي محمول آخر، ولذلك كان مغضوباً عليه ليس في بلده ألمانيا فحسب، بل في أمريكا أيضاً، ونرى هنا أن من أفضل الطرق لقراءة بريخت على شكل استعادة له هي العودة إلى كتاب قصائده الذي صدر في بيروت في العام 1986، ونقله إلى العربية أحمد حسان بشغف ملحوظ يعادل حرفية الترجمة الحية إلى الآن، برغم مرور واحد وثلاثين عاماً على صدور الكتاب الذي يدلنا المترجم من خلاله على معلومات مهمة وتاريخية. يقول أحمد حسان إن القارئ العربي ليس غريباً على بريخت «.. فقد تخطى مبكراً حدود وطنه ليصبح سنداً وإلهاماً للمضطهدين في كل مكان، وكابوساً يطارد كل العتاة، سارع النازيون إلى إحراق كتبه ضمن حملتهم لتجريم المعارضة، ووصل إلى الولايات المتحدة فاراً من النازية، ليسقط ضحية المحاكمات المكارثية..».. وإن كان من كلمة اعتراضية أو بين قوسين على هامش من وصفهم المترجم بالعتاة، فإن مثلهم اليوم أولئك الطغاة الذين يقارعهم أشباه بريخت، أما المضطهدون فهم كثر خصوصاً تحت نير الأنظمة المذهبية الطائفية، وتحت نير بياعي ثقافة الظلام والظلم والإرهاب، فالاضطهاد الذي حاربه بريخت قبل أكثر من ستين عاماً في بلاده على يد النازية الألمانية له نظير آخر اليوم، يتمثل في جماعات تسييس الأديان وهي ممتدة للأسف على بقاع طويلة من خريطة الوطن العربي، حيث العنف المسلح والإخونجية والداعشية وغيرهما من جماعات وأفراد ودول ترعى الإرهاب وتموله وتؤوي سياسييه وإعلامييه وصنّاعه، وفي ضوء ذلك فإن محنة بريخت المثقف والعدو للرعب والخوف والجريمة يمكن قراءتها جيداً من خلال شعره، ونحن في الوقت نفسه نعاين تمددات وتنقلات الإرهاب.. إرهاب الأفراد وإرهاب الدول معاً.برتولت بريخت فيه أكثر من وجه؛ فهو ناقد ومفكر وروائي وكاتب سيناريو وسياسي، وبالطبع إلى جانب كونه شاعراً ومسرحياً، وفي هذه المادة سنذهب إلى بريخت الشاعر في قصائد كتبها منذ العام 1912 وإلى العام 1956، حيث توفي في ذلك العام بعد دخوله المستشفى للعلاج من مضاعفات الإنفلونزا، وقد أوردت هذه المعلومة لأقول من خلالها إن بريخت ظل يكتب حتى أيامه الأخيرة، ظل شاعراً وسياسياً ومسرحياً حتى أيامه الأخيرة، لا بل سوف نعثر على قصيدة وربما هي الأخيرة له كان قد كتبها في مستشفى «الشاريتيه» الرئيسي في برلين الشرقية، حيث كان يعالج في مايو 1956، وهي قصيدة قصيرة بعنوان «في غرفتي البيضاء في الشاريتيه (ترجمة: أحمد حسان):«في غرفتي البيضاء في الشاريتيهحيث استيقظت قبيل الصبحوسمعت الطائر الأسود، فهمتفهماً أفضل لبرهةفارقني كل خوف من الموت. فلا شيءيمكن أن يضيرني إذا صرت أنالا شيء، الآناستطعت أن أتمتع كذلك بغناء كل طائر أسود يأتي بعدي..»أنقلك الآن في خط أفقي من الغرفة البيضاء إلى طفولة بريخت إلى أولى القصائد وأول التفتح على الكتابة، لتتضح لنا جدية هذا الشاعر، ورؤيته إلى العالم.. من أولى قصائد بريخت قصيدة بعنوان «في مودة العالم» ت: حسان: «إلى هذا العالم العاصف ذي الأسى الثلجيجئتم جميعاً عارين تماماًرقدتم باردين ومفتقرين إلى كل شيءحتى لفتكم امرأة بشال..».حافل شعر بريخت بما هو سياسي، وإنساني ولكن من دون إيديولوجيا أو شعارات، بمعنى آخر شعره غنائي يحمل دائماً تحية للإنسان وأحياناً يميل إلى السخرية، وفي داخل هذا الشعر تسمع أصواتاً مسرحية، أي أن روح المسرح ماثلة في شعر، كما أن روح الشعر ماثلة في مسرحه.كتب بريخت كثيراً موبخاً ألمانيا.. ألمانيا القمصان البنية التي كان يرتديها فصيل من الجيش النازي، إلى درجة قوله «هدني الجوع فنمت/‏ معدتي تئن/‏ ثم سمعتهم يصيحون في أذني/‏ أفيقي يا ألمانيا..»ألهذا السبب غادر بريخت إلى أمريكا؟ بالطبع لم يكن الجوع سبب الرحيل إلى بلد يرمز إلى الرأسمالية العالمية، وإنما هو روح شاعر متمرد يطارد بقصائده الطغاة والعتاة.يضع أحمد حسان الكثير من الهوامش والمعلومات والتواريخ الغزيرة التي تشكل ما يشبه طينة أولية وأساسية لرواية حياة بريخت، فهو على سبيل المثال يشرح أن الشاعر بعد وصوله إلى الولايات المتحدة مباشرة، كتب قصيدة بعنوان «سوناتا في المهجر». ولا يخفي بريخت حنقه أو غضبه على بلد جاء إليه قسراً أو منفياً، وأنه سيكون منبوذاً في مجتمع يتزايد شكه تجاهه يقول:«مطارد من وطني عليّ الآن أن أرىهل يمكن أن أجد متجراً أو حانة أو مقهىأبيع فيه نتاج عقليهاأنذا أطرق ثانية دروباً خبرتها جيداً..».عاش كتاب أو شعراء في أمريكا فترة من الزمن مثل لوركا الذي هجا نيويورك في إحدى قصائده، أما بريخت فهو يصف لوس أنجلوس بالبلدة آنذاك ومرة ثانية يكتب شعراً ساخراً يعكس قلقه الوجودي والفكري في مكان يتماثل مع المكان الذي فر منه: بلاده ألمانيا.. وقريباً من هذا التماثل يضع المترجم أحمد حسان هذا الهامش ذا الدلالة السياسية لإحدى القصائد.. يقول «كتب بريخت في مذكراته يوم 25 مارس 1942 أنه رأى اليابانيين في كاليفورنيا يسجلون أسماءهم كغرباء مشتبه بهم من جنسية العدو، في الوقت نفسه الذي كان يسجل نفسه فيه».لم يكن برتولت بريخت شكلياً أو خاضعاً لإملاءات ثقافة تقليدية أو فن تقليدي، وهذا ما تخبرنا به نصوصه النثرية التي جاءت تعليقات وافية أو شارحة لنصوصه الشعرية يقول.. «.. لأنني مجدد في مجالي، فإن هناك دائماً شخصاً أو آخر مستعداً للصراخ بأنني شكلي. إنهم يفتقدون الأشكال القديمة في ما أكتب: والأسوأ من ذلك أنهم يجدون أشكالاً جديدة، والنتيجة أنهم يظنون أن الأشكال هي ما يهمني. لكنني توصلت إلى نتيجة هي أنني لو كنت أفعل شيئاً فهو أنني أقلل من شأن الجانب الشكلي..».هل كان بريخت لا شكلانياً أيضاً في المسرح؟ ربما فإذا كانت الروح الإبداعية هي بالضرورة روحاً واحدة، فإن ما ينطبق على الشعر ينطبق على المسرح في إطار هذه الروح الواحدة.كتب بريخت مجموعة قصائد عن المسرح وعن رؤيته للعرض ورؤيته للممثل، وربما يقع هذا النوع من الكتابة في إطار اهتمامه التنظيري للمسرح، ولكن بلغة شعرية يقول في قصيدة بعنوان «أغنية كاتب المسرح» وهي قصيدة طويلة نسبياً ويمكن النظر إليها باعتبارها الرؤية البريختية للمسرح:«أنا كاتب مسرح. أعرضما رأيته في أسواق البشررأيت كيف يشترى الناس ويباعون. ذلكما أعرضه أنا كاتب المسرح».هذه القصيدة هي شرح لمفهوم المسرح عند بريخت، و ليس على شكل منهج أو تنظير أو نظرية، ولكن على شكل شعر أو أنه شرح مسرحي، ولكن بلغة شعرية، يقول:«لأتعلم كيف أعرض ما أراهقرأت تصوير الشعوب الأخرى والعصور الأخرىوأعددت بضع مسرحيات، مختبراً بدقةالتكنيك الخاص ومستخلصاً كل ما يفيدنيدرست تصوير الشخصيات الإقطاعية الضخمة الذي قدمه الإنجليز.. الشخصيات الثرية التي تعتبر أن العالم موجود من أجل اكتمال تطورهادرست الإسبان المغرمين بالأخلاقوالهنود، أساتذة المشاعر الجميلةوالصينيين، الذين يصورون العائلةوالمصائر المتباينة لألوان المدن..».هذه هي عالمية أو إنسانية برتولت بريخت بقدر ما هو ألماني غربي هو شرقي أيضاً بروح شعرية وأخرى مسرحية، صهرت الثقافات والحضارات في رؤية فنية واحدة، وعلى المستوى العربي تمت قراءة بريخت مسرحياً وجرى الاهتمام بفكره وتنظيره المسرحي.. خصوصاً من جانب المسرحيين العرب الذين تنهض أعمالهم على ما هو سياسي أو فكري أو إيديولوجي.. ولكنه كشاعر ظل محدوداً، والغريب أنه ظل محدوداً عند الشعراء العرب، مع أنه كما قال أحمد حسان ظل مثل قنبلة زمنية كامنة تحت سطح الأدب العالمي.

مشاركة :