وصراع الهوية في الوطن العربي ينبعث من قعر الواقع، وتُذْكِيه تدخلات مشبوهة، وتغري المصطرعين حولها جهاتُ استخباراتية عالمية، لا تريد للوطن العربي أن يخلد إلى الراحة، ولو ساعة من نهار. وليست تلك الرؤية من باب [نظرية المؤامرة]. إنها واقع ملموس، لا ينكره إلا جاهل، أو مغرض. والراصد لحراك الهوية من قَبْل، يرى أنها قاب قوسين، أو أدنى من الغليان، و إن كانت دون الانفجار. فالديانات الثلاث :- [الإسلام] و[النصرانية] و[اليهودية] تعيش هدوءاً حذراً، ومُصالحة وجلة، إلى حَدٍّ ما، لأنها تدرك أن مصلحتها في الانتماء للوطن، والإخلاص للعقيدة المتعددة. على حد :- {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا}. والطوائف [السِّنِّيَّة] و[الشيعية] و [الأباضية] و[الاسماعيلية] و [النصيرية] و[الدرزية] و [الزيدية ] و[الصوفية ] وما شاكلها، تَتَماسُّ على حذر، و تعرف أن أمنها، واستقرارها لا يتم، إلا بالتعايش السلمي، والمحاصصة ، أوالاندماج. والأعراق [العربية] و [ الكردية] و [التركمانية] وسائر الشعوب، و القبائل التي خلقت للتعارف، تعتز بقومياتها، وتلتف بعقيدتها. والأحزاب القوية كـ [ البعث] و [الاشتراكي] و [النهضة] و [الإخوان] والضعيفة التي تعد بالمئات، تصطرع على السلطة، رافعة شعار الحرية، والمساواة، والعدل، وتداول السلطة، وتكافؤ الفرص. ولكنها إذا وصلت إلى سدة الحكم، أكلت من حولها، وأوهت قواه بالتخوين والتجريم، وعِلَّتُها أنها صنيعةٌ انقلابات عسكرية، وصراعها من أجل السلطة، والانتصار، لا من أجل المبادئ، والحق. وإشكالية [الأقليات] حين يُمْنى بها اقليم، لا تحسم بالقوة، ولا تسوى بالأثرة، والاضطهاد، وإنما تحل بالعدل، والاعتراف بحق الوجود الكريم. ومن ألَمَّ بمشاكل [الأقليات] في العالم المتقدم، عرف كيف تدار الأزمات. وتظل الهوية - في النهاية - شعار الصراع، ومادته، وخارطة طريقه. ويبقى الحل الأمثل في وضعِ سقفٍ، يُحْظَرُ تجاوزه، سقفٍ يحفظ الدماء، والأموال، والأعراض. ويوفر الأمن، والاستقرار، والحرية، والكرامة، وتكافؤ الفرص. ويتيح المجال لحرية التفكير، والتعبير، والمعارضة، والمساءلة، والنقد، ولا يصادر الحقوق بالقوة. وتبقى الهوية حقاً مشروعاً، و يظل تحقيقها مطلباً رئيساً، و تصبح المحافظة عليها واجباً وطنياً. وليس من حق أحد كائناً من كان، أن يمسها بسوء. فهي في النهاية تمثل سيادة الأمة، واستقلالها. والاشكالية في العمل من خلالها، حين تتعدد الأطياف. ولما لم تعد قضايا الهوية من الموضوعات الهامشية، فقد اعتورتها أقلام العلماء، والمفكرين، والساسة، واعترتها بعض الاخفاقات في تحرير مسائلها. و[المملكة العربية السعودية] بوصفها جزءاً مهماً من العالم، فقد شقيت طائفة من ذوي الرأي والمعرفة فيها في تحرير المفهوم السليم للهوية. وقد زاد من اشتعال موضوعها ضجة [العولمة] التي حارت رماداً بعد سطوع مثير. وما هيجته من صحوات دينية، شطت بعض أصواتها، وأوغل البعض منها في التطرف والإرهاب، إضافة إلى ما خلفته الثورات الطائفية، والتقارب الطائفي المريب. و[العولمة ] التي بدأت في الشأن الاقتصادي، بعد انهيار الشيوعية، نفخ فيها الإعلام، حتى أصبحت شمولية، لا تدع شاردة، ولا واردة في الشأن العالمي، إلا دمغته، وارتهنته لحسابها، وما كانت في نشأتها الأولى كذلك، ولكنها الجرعات المجازفة التي قضت عليها في مهدها. لقد حفلت المشاهد الثقافية بخطابات تتسم بالحِدَّةِ، والحَدِّيَّةِ، كرست أهمية الهوية، واجتذبت الأقلام، والمنابر، والحناجر، والخناجر، وامتدت إلى الأيدي، والقوى، وليس متوقعاً أن تهدأ مناوشاتها في المنظور القريب. وممن نفل الهوية المحلية بحديث متوازن الدكتور [غازي القصيبي] -رحمه الله - في كتابه [العولمة والهوية الوطنية] وهو مجموعة محاضرات ذات بعد اقتصادي. والشيخ [أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري] في كتابه [التفريغ أولاً.. والتغيير ثانياً أو الهوية العربية بين زوابع الابتلاء] مراوحاً في حديثه بين الثورية، والعلمانية، وسائر التقليعات الإعلامية، مركزاً على تجربة العراق الحزبية، ومرتبطاً بظروف المرحلة المأزومة، إبان الحرب الخليجية الثانية. وعلى خلاف هذين [مي أحمد زكي يماني] التي تناولت في فصل من رسالتها الأكاديمية شأن الهوية في المملكة، برؤية فجة منحرفة، ونية سيئة، وافتراء مكشوف وشذوذ فكري لا يحتمل. وقد تصدى لها الأستاذ الدكتور [سعد بن عبدالعزيز الراشد] بكتابه [هويتنا ومغالطات مي يماني] والأستاذ الدكتور [الشريف حاتم بن عارف العوني] في مقال طويل، يرد فيه على مغالطاتها باسلوب علمي، ومنهج معرفي. ومن التناولات المعرفية مقاربة الدكتور [علي بن إبراهيم النملة]، في عدد من كتبه، وبخاصة كتابيه [السعوديون والخصوصية الدافعة]، و [فكر الانتماء في زمن العولمة]، وهو لا يباشر الهوية، ولكنه يلامس محققاتها. ولابنتي [أم عبدالرحمن] رسالة ماجستير مخطوطة، تقدمت بها لـ[جامعة الزيتونة] في تونس، أثناء إقامتها مع زوجها الملحق الثقافي هناك، تحت عنوان [التنشئة الاجتماعية وبناء هوية الطفل الخليجي زمن العولمة: أي دور للمربي؟]. والجميع يراوحون بين الواقعي والمعرفي. ويبدي البعض منهم توصياته من أجل الحفاظ على الهوية بسمات متنوعة، ولكنها ليست متضادة. ودون ما سبق يأتي كتابي [العولمة والثقافة والتعليم تصالح أم تصادم] حاملاً هاجس الخصوصية المصادرة. والعولمة إبان اشتعالها، هي المحرك الرئيس لكل الصراعات. تليها النزعات الإصلاحية، فالتنظيمات الحزبية الحركية، وحكم الطائفية المتلبس بالثورية والتصدير. والمسيء في الأمر تصعيد الحراك إلى حد الافتتان، وإراقة الدماء، وتردي كثير من المناطق العربية في أتون الفراغ الدستوري. هذه المآلات لا تدخل ضمن امكانياتنا، لأنها تصرفات لا يحكمها عقل، ولا يهيمن عليها نص، ولا تشرف على إدارتها مؤسسات مدنية، أو مجالس نيابية. واشكالية الهوية تنداح في الشأن الطائفي، والخطورة في تعدد الهويات داخل الدولة الطائفية، وقد عولجت تلك الظاهرة إن على مستوى الدولة الطائفية، أو على مستوى التعددية داخل الدولة المدنية. والمعضلات تكمن في تعتيم الرؤية، وتزييف الواقع، أو في السكوت المداهن. وأخطر من ذلك كله الفهم الخاطئ، والإيمان غير الممحص. والفتن الطائفية المتقنعة بهم الهوية، لا تنبعث اعتباطاً، إن هناك ضوابط سياسية و مجتمعية حين لا تكون محكمة الرسم، تزج بالأنفس والمثمنات في أتون الفتن. والحالة تزداد سوءاً حين لا يكون الإعلام وسيطا حكيما، يسهم في فك الاشتباك، وتهدئة الأوضاع، واستلال الضغائن والأحقاد. وليس أضر على الأمة من دولة الحزب الواحد، أو الطائفة الواحدة، في ظل التعدديه الشعبية. وأي سلطة لا يمكن أن توفر الحس الوطني لدى المواطن، وهي تستبطن الحس الطائفي، أو الحزبي. ولقد يجد هذا الصنف من الدول أن [التكتيك] المتذاكي، يغني عن [الاستراتيجية] المتوازنة. ولما لم يكن بالإمكان الغاء الطائفية، أو الدمج بين الفرقاء، فإن بالإمكان تخصيب القواسم المشتركة، والتغافل عن فواقع الألوان المثيرة للمشاعر. ولوجود تجارب حية للتعايش، فإن من الأجدى والأهدى اقتفاء الأثر القاصد، والخلوص من التجريب المطيل لأمد التحسبات. وكم يتوهم البعض أن التمايز يستدعي التميز، ومن ثم يحول دون الاحتفاظ بالخصوصية، لكيلا يكون هناك مميزات محتكرة. ولَسْت أشك أن المشاكل تنشأ من خطأ التقدير، وسوء التدبير، و اضطراب التفكير. ولو بادر الأزمات حكماء مجربون، لانحلت في مهدها، وقُطِع دابر البواعث، و أمل المتربصين. والسلطة الشرعية في النهاية هي التي تحدد معالم الهوية، وترسم أسلوب المحافظة عليها، وطرائق تمثلها، ومؤشرات استقرارها، وعوامل اضطرابها. ولن تتجلى الهوية الأقوى في ظل حكم الأقلِّيَّة، ولا في حكم الأكثرية المستبدة. إن هناك توازناً لا يُحْسِن تركيب أجزائه إلا المواطنون المخلصون لدينهم، ووطنهم، وأمتهم. المواطنون العارفون ببواطن الأمور، المتقنون لقواعد اللعب السياسية، الذين لا يبيعون وطنهم، ولا أمنهم في سوق النخاسة. ولـ[مختار العياشي] رؤية حول الحراك الحضاري، المتمثل بالخطوات التالية :- [النهضة] [التنوير] [الحداثة] [مابعد الحداثة] [العولمة] [العالمية]. إذ يرى أن العولمة فشلت عندما تدخلت في الهويات، في محاولة لقولبة العالم ثقافياً، في بوتقة النموذج الغربي. وهو في هذا الرأي يتعالق مع [هنجتون]. وفات الاثنين الحراك الإسلامي المؤثر في الحراك العالمي، والمتفاعل معه، والمجهض لكثير من الرهانات. بقي أن نقرأ بتمعن كتابين أحدثا ضجة أكبر من حجم القيم المعرفية فيهما :- [صراع الحضارات]و [نهاية التاريخ]. ونراجع كتابين لـ[محمد عابد الجابري] [مسألة الهوية]، و لـ[عبدالمجيد النجار] عن [صراع الهوية في تونس]. ففي ذلك كله إضاءات تساعد على التصور السليم لتلك الإشكالية الأزلية. ومن المعلوم من الأحداث بالضرورة أن كل الدماء المعصومة، المتدفقة بسخاء فوق أديمنا الممزق شر ممزق، إنما تراق في سبيل محاولة صياغة جديدة للهوية، على مراد أدمغة مغسولة، لا تراعي في مؤمن إلاَّ، ولا ذمة. ورهاني الوحيد حول تحقيقها المشروع، و المحافظة عليها بأقل التكاليف، يكمن في [الدعوة بالحكمة، والحوار المتكافئ، والأسوة الحسنة].
مشاركة :