تعد وفاة الملايين دون داع من أتعس الحقائق حول الحرب العالمية الأولى، ويرجع السبب في ذلك إلى بطء القادة العسكريين والمدنيين في تكييف إستراتيجياتهم وتكتيكاتهم قديمة الطراز على الأسلحة الجديدة لعام 1914. لقد زادت التكنولوجيا الجديدة من فظاعة وتعقيد الحرب أكثر من أي وقت مضى. وظلت الولايات المتحدة وغيرها من البلدان تشعر بآثار الحرب لسنوات تالية. كانت الصورة الشهيرة للحرب العالمية الأولى تبرز جنوداً متمركزين في الخنادق والمخابئ الموحلة يعانون من ظروف عيش مزرية في انتظار الهجوم المقبل. وهذه صورة صحيحة من حيث الأساس. فقد أنتجت التطورات التكنولوجية في مجالات الهندسة والمعادن والكيمياء والبصريات أسلحة أشد فتكاً من أي شيء عرفه الإنسان من قبل. وجعلت قوة الأسلحة الدفاعية الانتصار في الحرب على الجبهة الغربية أمراً مستحيلاً لأي طرف. عندما كانت تصدر أوامر بالهجوم، كان الجنود ينهضون من مخابئهم ويقفون (على قمة الخنادق) ويَعْبرون البراري للوصول إلى خنادق العدو. وكان عليهم اجتياز أحزمة من الأسلاك الشائكة قبل أن يتمكنوا من استخدام البنادق والحراب والمسدسات والقنابل اليدوية للاستيلاء على مواقع العدو. كان الانتصار عادة ما يعني أنهم لم يستولوا إلا على بضع مئات من الأمتار من الأرض التي مزقتها قذيفة على حساب تكلفة رهيبة في الأرواح. وكثيراً ما كان الرجال الجرحى يرقدون في عجز في العراء حتى الموت. أما المحظوظون بما فيه الكفاية لإنقاذهم فلا يزالون يواجهون ظروفاً صحية رهيبة قبل أن يتم نقلهم إلى المرافق الطبية المناسبة. وبين الهجمات، كان القناصة والمدفعية والغاز السام يتسببون في نشر البؤس والموت. الطائرات إحدى منتجات التكنولوجيا الجديدة يقول توري ماكلين، ضابط سابق في جيش الولايات المتحدة حيث خدم في فيتنام، ودرس الحرب العالمية الأولى لأكثر من ثلاثين عاماً، وأجرى مقابلات شخصية مع عدد من قدامى المحاربين في الحرب العالمية الأولى، كانت الطائرات إحدى منتجات التكنولوجيا الجديدة، وكانت تتكون في الأساس من القماش والخشب والأسلاك، لم تستخدم في البداية إلا لمراقبة قوات العدو، وعندما اتضحت فعاليتها، أطلق الجانبان المتصارعان النار على الطائرات مع المدفعية الموجودة على الأرض فضلاً عن البنادق والمسدسات والرشاشات الموجودة على الطائرات الأخرى. في عام 1916، قام الألمان بتسليح الطائرات برشاشات يمكنها إطلاق النار للأمام دون إصابة مراوح المقاتلين. وسرعان ما قام الحلفاء بتسليح طائراتهم بالطريقة ذاتها، وأصبحت الحرب في الهواء عملية قاتلة. قامت هذه الطائرات المقاتلة الخفيفة التي تتميز بقدرات عالية على المناورة بمهاجمة بعضها بعضاً في معارك جوية برية عُرفت باسم الاشتباكات الجوية dogfights. وغالباً ما كان الطيارون الذين يتم إسقاطهم يعانون من الاحتجاز في طائراتهم المحترقة حيث لم يكن لديهم مظلات. لم يكن الطيارون المشاركون في القتال في الجبهة يعيشون طويلاً، واستخدمت ألمانيا أسطولها من المناطيد الضخمة وقاذفات القنابل الكبيرة بغرض إسقاط قنابل على المدن البريطانية والفرنسية، وردّت بريطانيا بقصف المدن الألمانية. وعلى الأرض مرة أخرى، أثبتت الدبابات أنها الإجابة على الطريق المسدود لحرب الخنادق. في هذا الاختراع البريطاني، تم استخدام خطوط سكك حديدية من طراز كاتربيلر ذات تصميم أمريكي لتحريك عربة مدرعة مجهزة بمدافع رشاشة ومدافع خفيفة في بعض الأحيان. عملت الدبابات بشكل فعال على الأرض الجافة الثابتة على الرغم من سرعتها البطيئة، مشاكل ميكانيكية، والتعرض للمدفعية. قادرة على سحق الأسلاك الشائكة والخنادق الصليبية، توغلت الدبابات إلى الأمام من خلال آلة إطلاق النار. ظهور الحرب الكيماوية ظهرت الحرب الكيميائية أول مرة عندما استخدم الألمان الغاز السام خلال هجوم مفاجئ في فلاندرز، بلجيكا، في عام 1915. في البداية، أُطلق الغاز من أسطوانات كبيرة فحسب وحملته الرياح إلى خطوط العدو القريبة. في وقت لاحق، تم تحميل الفوسجين وغيره من الغازات في قذائف المدفعية التي أُطلقت على خنادق العدو. استخدم الألمان هذا السلاح أكثر من أي شيء آخر. واستخدم جميع الأطراف المتصارعين الغاز في كثير من الأحيان بحلول 1918. وكان استخدامه تطوراً مخيفاً حيث تسبب لضحاياه في قدر كبير من المعاناة، إن لم يكن الموت. استخدم كلا الجانبين مجموعة متنوعة من البنادق الكبيرة على الجبهة الغربية، بدءاً من البنادق البحرية الضخمة التي تُحمل على عربات السكك الحديدية إلى قذائف الهاون قصيرة المدى في الخنادق. وكانت النتيجة هي حرب لم يكن فيها الجنود القريبون من الجبهة في مأمن من القصف المدفعي. واستخدم الألمان مدفعية بعيدة المدى جداً لقصف باريس على مسافة تبلغ نحو ثمانين ميلاً. وتولد عن انفجارات قذائف المدفعية حُفر واسعة شبيهة بالقمر حلت محل الحقول والغابات الجميلة. التقدم التكنولوجي للمدفع الرشاش ولعل أهم تقدم تكنولوجي خلال الحرب العالمية الأولى هو التحسن الذي دخل على المدفع الرشاش، وهو سلاح ابتكره في الأصل الأمريكي حيرام مكسيم. أدرك الألمان إمكاناته العسكرية، ووفروا عدداً كبيراً جاهزاً للاستخدام في عام 1914. كما قاموا بتطوير مدافع رشاشة مبرّدة بالهواء للطائرات وأدخلوا تحسينات على تلك المستخدمة على الأرض حيث جعلوها أخف من حيث الوزن وأسهل من حيث النقل. وقد تجلت الإمكانات الكاملة للسلاح في ساحة معركة السوم Somme battlefield في يوليو عام 1916 عندما أدت الرشاشات الألمانية لمقتل أو إصابة ما يقرب من 60 ألفاً من الجنود البريطانيين في يوم واحد فقط. في البحر، هاجمت الغواصات السفن بعيداً عن الميناء. ولتحديد موقع الغواصات الألمانية وإغراقها، طور العلماء البريطانيون أجهزة تنصت تحت الماء ومتفجرات تحت الماء تُدعى أسلحة الهجوم في الأعماق depth charges. أصبحت السفن الحربية أسرع وأكثر قوة من أي وقت مضى وتستخدم أجهزة الراديو الحديثة لإجراء اتصالات بشكل فعال. وأدى الحصار البحري البريطاني لألمانيا، بفضل التطورات في مجال التكنولوجيا البحرية، إلى مواجهة المدنيين لحرب شاملة. تسبب الحصار في مجاعة أدت في النهاية إلى انهيار ألمانيا وحلفائها في أواخر 1918. استمرت المجاعة وسوء التغذية في حصد أرواح البالغين والأطفال الألمان لسنوات بعد الحرب. توقف إطلاق النار في 11 نوفمبر عام 1918، ولكن التكنولوجيا الحربية الحديثة كانت قد غيرت مجرى الحضارة. تعرّض الملايين للقتل أو الاختناق بالغاز أو التشويه أو الجوع. واستمرت المجاعة والمرض في اجتياحها لوسط أوروبا، وحصدت عدداً لا يُحصى من الأرواح. وبفضل التقدم التكنولوجي السريع في كل مجال، تغيرت طبيعة الحرب إلى الأبد، وهو ما أثّر على الجنود والطيارين والبحارة والمدنيين على حد سواء.
مشاركة :