(الهيت).. رقصة مغربية بإيقاع حربي

  • 8/5/2014
  • 00:00
  • 57
  • 0
  • 0
news-picture

تزخر المملكة المغربية بفنون تراثية وغنائية وفلكلورية متنوعة. ولا تخلو كل منطقة بها من نوع فني يؤصل لتقاليدها وأصالتها وعراقة حضارتها الضاربة في جذور التاريخ. ويشتهر الجنوب برقصات أحواش و(الكدرة) والأدب الحساني، فيما يحضن الشمال ألواناً فنية مختلفة من بينها (العيطة الجبلية) التي تتقاطع مع عيطات (المارساوي) بمناطق أخرى، بينما تشتهر مناطق الأطلس في الوسط بفن أحيدوس، والمناطق الشرقية برقصة الركادة والراي، فيما تشكل (الدقة المراكشية)، وسام أهالي مدينة مراكش ونواحيها. ولعل من أشهر الفنون المماثلة التي تشكل خارطة طريق التراث الفلكلوري المغربي، فن (الهيت) الذي تشتهر مناطق بعينها في إقليمي تازة وتاونات المجاورين في الشمال الشرقي، بها مرتبطة بشكل وثيق مع ألعاب الفروسية التقليدية أو (التبوريدة) التي يقام لها مهرجان سنوي في مدينة تيسة التي توصف بـ(مدينة الخيل والملح). ونظراً لطرافة وأهمية هذا الفن التقليدي المحض الذي تشتهر به قبائل الحياينة قبل غيرها، نفرد هذا الروبرتاج الذي يلامس الجوانب الواضحة والخفية من فن متأصل في التقاليد المحلية. أهالي مهووسة بالفرس و(الهيت) تشتهر قبائل الحياينة الواقعة بمنطقة تيسة في إقليم تاونات، على بعد حوالي 55 كيلومتر من العاصمة العلمية المغربية فاس، والمعروفة بجوادها الأصيل الذي جعل منها (مهد الخيل)، بفن (الهيت) أو (الهايتي) كما يعرف محلياً. ويرى فيه أهل المنطقة (خليلاً للفرس وربيباً للجواد) و(فلكلوراً شعبياً متوارثاً عن الأجداد يطبع الفارس ويبصم خطواته وإيقاعات تحركه). ولا يكاد دوار بالحياينة يخلو من فرقة مختصة في هذا الفن الإبداعي الذي أضحى (مظهراً من مظاهر الجهر بالزواج والفرحة بالانتصار). ويرى أهالي منطقة تيسة الذين يسكنهم حب (الهيت) ويتوارثون حبه والتعلق به وبالخيل والفروسية التقليدية أو (التبوريدة) و(الزهو) و(النخوة)، أباً عن جد، أن الحفل دون فرق مختصة في هذا الفن أو ما يسمى بـ(الرباعة)، (طعام دون ملح ولا توابل)، بالنظر إلى الفرجة التي تخلقها خاصة في الأعراس والحفلات. لكنهم أمام الواقع الذي يعيشه هذا الفن الجميل المتغلغل في أفئدة محترفيه، لا يخفون تخوفهم من انقراضه خصوصاً أمام عزوف الشباب عن تعلمه والحفاظ على استمراريته ودوامه. ويؤكد السيناريست المغربي عبد الرحيم بقلول، صاحب عدة سيناريوهات أفلام مغربية، والمهووس بالبحث والتنقيب في جذور هذا الفن المتأصل، أن (الهيت) (مظهر من مظاهر الفرحة بانتصار الفرسان العائدين من معركة أو حركة). ويزيد (كانت تنصب القدور ليلاً ويترجل الفرسان بعدما أغمدوا سيوفهم ليخرجوا عدة الزهو، أي البندير (الدف) حيث يجسدون على ضوء القمر ما قاموا به من بلاء نهاراً في لوحات فلكلورية بديعة كالكر والفر وتقليد حركات الجواد الجامح في حركات متناسقة وأنيقة محسوبة بنظرية الفطرة والطبع). ويرى أن ليس ثمة تاريخ دقيق لهذا الفن اللهم ما يمكن أن نستشفه من طابعه العربي الأصيل المميز والمرتبط بالمناطق التي عرفت حلول العروبة بشكل مكثف، مؤكداً أن صيت الهيت ذاع متعدياً حدود قبيلة الحياينة التي ينتمي إليها وله جذور تاريخية فيها، لـ(يجد له إخوة وأبناء عمومة غرباً ولاسيما في مدن وأقاليم وزان وتطوان وطنجة في الشمال المغربي وسيدي يحيى والقنيطرة وسيدي قاسم في الغرب وشرقاً بتازة ووجدة، مسجلاً وجود تباين في الإيقاع من منطقة إلى أخرى واختلاف في الحركات الجسدية). إحياء تراث لا يضمن القوت اليومي لمحترفيه يعيش المهووسون بفن الهيت في منطقة تيسة التي تحتوي على ما ينيف على 12فرقة له في مختلف الدواوير التابعة لها، ويقض مضجعهم غياب الاهتمام به وإيلائه الدعم المادي والمعنوي اللازم، المهدد بالانقراض ما لم يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه طالما أنه لم يعد (يوكل الخبز) كما كان الحال (في أيام زمان العز والنخوة)، ويرون أن تدخل الجهات المعنية بالحفاظ عليه خصوصاً وزارة الثقافة، ضروري لدعم كل المبادرات الساعية إلى الحفاظ على هذا التراث حتى (لا تموت جدوة حبه في قلوب كبار شيوخه) وتشجيع الشباب على الإقبال عليه. (أنت هبيل اللي كتهز البندير) (أنت أحمق باستمرارك في حمل الدف).. عبارات بالدارجة المغربية، لطالما يخاطب بها الأبناء آباءهم الذين لم ييأسوا بعد من تحقيق مصير مشرق للهيت الحياني الذي وجد فيه المبدعون الأكاديميون مادة خام ومخزوناً حركياً تراثياً غنياً جديراً بالاستغلال والاستثمار وهو الذي اهتم به المسرحي الطيب الصديقي وعمل على تطويره دون تغيير معالمه الأصيلة حيث (سقاه بقوانين فن الكوليكرافية محاولاً تبسيط قاموس أبجديات اللوحات الجسدية لتأخذ بعدها التاريخي والفني) حسب ما أفاد به عبدالرحيم بقلول الذي أوضح أن المبدعين المغربيين عبدالصمد دينا وحسن الجندي (سارا على النهج نفسه). ويرى بعض أعضاء فرقة (بنعلالات) التي تعد واحدة من أشهر فرق الهيت بمنطقة الحياينة إلى جانب فرق أخرى من مناطق أولاد عمران وأولاد رياب وعين كدح وسبت سمارة ومسدراته، أن هذا الفن أضحى (خضرة فوق الطعام) (شيء كمالي) و(لم يعد يوكل الخبز) (لا يضمن القوت اليومي لمحترفيه)، طالما أنه لا يذر مالاً وافراً على ممتهنيه (معظمهم فلاحون أو تجار أو يشتغلون من مهن حرة) وطالما أن (هذ الحرفة كتخدم فيها شهر أو شهرين. وما عمر شهر واحد يخدم على عائلة في 12 شهراً). ويؤكد الباحث عبد الرحيم بقلول الذي سبق أن تحمل مسؤولية الإدارة الفنية لفرقة (بنعلالات) بمنطقة تيسة، أن شريطاً أنجز عنها يوجد الآن في أكبر المعاهد العالمية يستعمل وسيلة لتدريب الموسيقى به، مبرزاً أن (مدام فيكي) أستاذة للموسيقى بمدينة نيس الفرنسية هي التي أعجبت بهذا الفن التراثي وحضرت إلى تيسة وصورت فيلماً وثائقياً عن الفرقة. واستغرب عدم اهتمام المسؤولين عن الثقافة بالمغرب بهذا الفن الأصيل الذي يستحق التفاتة جادة ومسؤولة. (الحارك).. حضور نسائي في رقصة الهيت غابت المرأة في الوقت الراهن عن فن الهيت الحياني الذي كان في بدايته عبارة عن (احتفالية بالنصر) بواسطة آلات إيقاعية كالبندير والتعريجية والتعبير الجسدي عند الرجل والمرأة (بعدما كان لها دور مهم ورئيس وحساس في مختلف فرقه المحلية المسماة بـ(الرباعة)، إذ كانت تسمى حينها بـ(الحارك). و(الحارك) برأي الباحث عبد الرحيم بقلول (كلمة مقتبسة من الحركة واستعارتها فرقة بنعلالات لفن الهيت، ربما من دوار آخر في السنوات الأخيرة). وأوضح الباحث نفسه أنه في الماضي كانت تقوم بدور (الحارك)، جل سبايا (الحركات)، مشيراً إلى أنه (من شروط هذه الحارك المختفية عن الساحة، أن تكون متزوجة وزوجها فنان هيات أي ولوع بهذا الفن). وأبرز أن آخر (حارك) يتذكرها شخصياً، (كان زوجها مشهور في المنطقة بإقامة الشاي في مختلف أعراس المنطقة). وأكد أن (الفنان يلبس أبهى حلله من الثياب الأبيض وزوجته الحارك في أحسن زينتها ضاربة على وجهها خماراً بشكل لا يظهر من جسدها إلا من عينيها المكحولتين). وأشار بقلول أثناء تشريحه لتاريخ هذا الفن، إلى أن (الحارك) كانت تمتطي الفرس الحرة التي يقودها زوجها بها إلى موقع العرس وميدان رقصة فن (الهيت) الذي امتزج فيه البندير (الدف) المصنوع من جلد الماعز والمقص والغيطة، لتجسد (لوحة الفرس وهي تلاعب الخيول المطهمة في البراري والبطاح على إيقاع البندير، لينضاف إليه المقص الذي جاء وسيلة مألوفة لدى هؤلاء الفرسان ويشكل آلية من آليات أعمالهم الموسمية في عملية الجر وجمع الصوف). فرجة بإيقاعات خفيفة وثقيلة يعد الهيت الحياني (نوع من الفرجة يكون خفيفاً أو ثقيلاً. ويفضل أهل البوادي النوع الأول في الغالب). وتتحد في مختلف إيقاعاته الراقصة، مجموعة من الدفوف والغيطة والطبل ويضاف أحياناً إليها المقص و(التعريجة)، في الوقت الذي تبقى فيه الغيطة والطبل، ضروريتين لتنويع الطرب والنغم. ويحرص (الربايعية) على توحيد الزي، إذ عادة ما يلبسون (الفوقية) البيضاء (تشبه القفطان) توضع عليها (الحمالة) (حزام خاص) الحمراء والحزام، وتغطى الرؤوس بـ(الرزة) أو (الشاش) الأصفر وتنتعل البلغة الصفراء. ويصطف أعضاء فرقة الهيت الذي يقبل الشباب على الخفيف من إيقاعه والذواقة والمولعون على العادي الإيقاع، في صفين متقابلين يختلف وضعهما باختلاف الرقصة المؤداة، في الوقت الذي يرتل فيه عضو منها بين الفينة والأخرى، مونولوجات مرتجلة ذامة أو مادحة. وتفضل بعض الفرق التي تتكون من 12 إلى 14 فرداً ويتغير العدد بتغير المناسبة، الاصطفاف في صف واحد مؤثث بشكل رائع حيث يصطف حامل الغيطة على اليمين وصاحب المقص يساراً قرب الخيالة. ويقوم إيقاع الهيت لدى فرقة بنعلالات مثلاً التي (تجاوزت شهرتها الحدود الوطنية وشاركت في عدة مهرجانات وطنية ودولية في والت ديزني وفلوريدا وقرطاج وبوردو ومونبوليي) وتتشكل من خمس (بنادرية) و(تعارجيين) و(غياطين) وصاحب مقص، على خمس أو ست دقات على البندير اثنان منها بيد وواحدة بأخرى أو أربع دقات بيد والخامسة بأخرى، عكس إيقاع البرانس بتازة الذي يقوم على دقتين في الوسط وواحدة للوراء. وعادة ما يحرص عضوان بالفرقة غالباً ما يكونان (بنادرية) وصاحبي دفوف يصنعها أعضاء الفرقة بأنفسهم لأنهم الأدرى بالجلد والوتر الملائم لإيقاعهم، على القيام بحركات ورقصات بهلوانية بديعة وسط صفي أو صف الفرقة أثناء الرقص في الحفلات والأعراس والمهرجانات و(قد ينضاف إليهم آخرون)، بشكل لا يخلو من فرجة وإمتاع لعين المتلقي. وهي حركات (فيها دم) و(تعني بحال اللي حرب بين الواحد والآخر. الهيت بحال الحرب) (كما لو كانت لقطات فر وكر في معركة حربية). وتتخلل الإيقاع الرتيب خرجات من الرقاصة لتكسير الروتين الذي يطبع نغمه، ويلجأ أعضاء الفرقة في الأعراس وحفلات الزفاف المحلية، إلى (البسط) أو ما يعرف لديهم بـ(المعايرة) وخلاله يبرز كل عضو خصال الآخر بأسلوب ساخر مرتجل ولاذع، لكن بتسامح كبير حتى ليخيل للسامع أن الأمر غاية في الجدية. ويتجاوب الجمهور مع ذلك ويعلو الصياح والزغاريد كلما نجح أحد (المتبارين) في إغضاب الآخر، أو رجحت كفة أحد على الآخر.

مشاركة :