نتحدث في هذه العجالة عن المعضلة، وليس فقط عن الإشكالية أو المشكلة بالنسبة لموضوع المواطنة والديمقراطية في سوريا، لقناعتنا أن التعقيدات التي تمّيز الملف السوري هي أكبر بكثير من مجرد إشكالية واضحة المعالم، وذات عناصر محدّدة نتيجة لتداخل تجليات الأزمة بين كل الأطراف الفاعلة على مستوى المشهد العام، داخلياً، وإقليمياً، ودولياً. ونعتقد في السياق نفسه أن التضحيات التي قدمها الشعب السوري من أجل الحفاظ على وحدته الوطنية وتحقيق مشروع المواطنة الذي يضمن حقوقاً متساوية لكل السوريين على اختلاف مذاهبهم، وطوائفهم، وانتماءاتهم السياسية، هي أكبر بكثير من حرب التسميات والتوصيفات التي تُطلق على أحداث سوريا منذ اندلاع «الحراك الشعبي» سنة 2011، وبخاصة بعد أن قامت قوى الإسلام السياسي بالسطو على مصطلح «الثورة»، وسعت إلى توظيفه لخدمة مشروع المجتمع الذي تدافع عنه بكل قوة واستماتة، وبدعم صريح ومباشر من قبل بعض الأطراف الإقليمية التي باتت تفصح عن أجندتها بكل وضوح منذ اندلاع الأزمة الخليجية الأخيرة. كما ننطلق في هذه المقاربة من قناعة راسخة مؤداها أن الشعب السوري يستحق بعد كل المعاناة التي عاشها خلال السنوات الأخيرة، أن يعيد تحقيق حلم الاستقرار والوحدة بعيداً عن كل أشكال الاستبداد والقهر. ولا يمكن تجسيد مثل هذه الأهداف المشروعة في ظل وجود قوى داخلية تسيطر على مناطق شاسعة من الأرض السورية، وتتبنى مشروع مجتمع قائم على التطرف وإقصاء الآخر المختلف، كأن هذه القوى تريد أن ينتقل الشعب السوري من استبداد إلى استبداد آخر أشد فتكاً وتدميراً، وبخاصة وأنها تنظُر، بناءً على عقيدتها المتطرفة والفاسدة، إلى مكوِّنات واسعة من الشعب على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، من خلال استحضارها وإعادة توظيفها لسلم التصنيف الطائفي الذي يعود بنا القهقرى إلى تلك البلاغة التي كانت سائدة في فكر مرحلة ما قبل انتصار قيم المساواة والمواطنة. وعليه، وخلافاً للكثير من المتابعين الغربيين الذين يروِّجون في هذه المرحلة لفكرة استحالة تحقيق الديمقراطية في سوريا، فإنه يمكننا أن نزعم أن ما يدخل في خانة الاستحالة هو إمكانية انتصار قوى التطرف، أما مشروع الديمقراطية فإننا نعتقد أنه يسير بكل ثقة نحو التجسيد بعد اقتناع كل الأطراف الحاملة لمشروع الدولة المدنية، بضرورة تقديم بعض التنازلات المؤلمة من أجل استعادة السلم الأهلي في كل ربوع سوريا. ليس من العدل بالتالي، بعد كل هذه السنوات من التدمير والقتل العشوائي، أن يُجبر الشعب السوري على الاختيار ما بين «الطاعون والكوليرا»، وأن تغلق في وجهه أبواب ثقافة الحداثة والعصرنة، وقيم التسامح والإخاء، لينتقل في غفلة من نخبه المستنيرة، من حيف الحزب الواحد إلى جور الطائفة الواحدة، التي يرفض بعض أقطابها كل الحلول القائمة على فصل السياسي عن الديني. لا شك لدينا أن الرئيس الإيراني حسن روحاني، قد أخطأ مؤخراً عندما صرّح في ندوة صحفية عقدها مع نظيره النمساوي، بأن الديمقراطية لا تمثل أولوية في سوريا في هذه المرحلة التي تسيل فيها الدماء، ويزيد فيها عدد المهجرين والمشردين، وبالتالي فنحن نعتقد من جانبنا، أن مسلسل القتل والدمار سيتواصل، وقد يتضاعف في حال استمرار انغلاق الأفق السياسي، بخاصة إذا غابت مشاريع تسوية حقيقية تضمن المشاركة السياسية لكل مكونات الشعب السوري. من منطلق أن المنطق السياسي السليم يؤكد أن فتح المجال السياسي أمام مكونات المجتمع المدني، من شأنه أن يسمح بتوفير الشروط الضرورية التي تسهم في خفض الاحتقان، وتساعد على عودة السلم؛ وسيكون من العبث السياسي أن نطالب كل أطراف الأزمة السورية بالعودة إلى المربع الأول، والتخلي بالتالي عن كل أحلام الحرية التي اصطبغت بألوان الدماء التي سالت في قرى سوريا، ومدنها التاريخية. ولا بد من التذكير في هذا المقام، بأن محنة الشعب السوري لا تتحمل وزرها الأطراف السورية المتقاتلة فقط، فالقوى الأجنبية الإقليمية منها والدولية، تتحمل قسطاً كبيراً من المسؤولية، نظراً لاستباحتها سيادة الدولة السورية، وتحويلها لجغرافيتها إلى معترك سياسي من أجل تصفية خلافاتها. وقد دفع تفاقم هذه الوضعية سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان، وزير الخارجية الإماراتي، إلى دعوة كل من إيران وتركيا إلى إنهاء أعمالهما الاستعمارية في سوريا، بعد أن أصبح سلوك الدولتين يتميّز بالطيش والاستهتار، كأنهما باتتا تمتلكان مطلق الحرية في تنفيذ أجنداتهما السياسية بعيداً عن كل الاعتبارات المتعلقة بسيادة الشعب السوري على ترابه الوطني. ونستطيع أن نخلص في الختام إلى أن الشعب السوري من حقه أن يحدّد بنفسه أولوياته السياسية، التي يمثل الاستقرار والسلم الأهلي والتعايش ما بين مختلف مكوناته أهم عناصرها ومحطاتها، إلى جانب الديمقراطية التعددية التي تسمح بتجسيد ذلك الاستقرار، وبدعم مساره والمحافظة على ديمومته، لاسيما إذا استطاع الشعب السوري أن يستعيد استقلالية قراره السياسي بعيداً عن تدخلات القوى الدولية والإقليمية. ومن ثمة فإن الديمقراطية السورية، وبالرغم من التعقيدات الكبرى التي تواجه مسارها وترفعها إلى مستوى المعضلة التي يتصور البعض استحالة حلها، فإنها ستظل في تصورنا تمثل الرافعة والمهماز الذي سيدفع السوريين إلى تجاوز خلافاتهم، وإلى التعالي والسمو فوق جراحاتهم من أجل تجسيد حلم الديمقراطية في طبعتها، ونسختها السورية الأصيلة. الحسين الزاويhzaoui63@yahoo.fr
مشاركة :