الدولة التي ترفع استحقاق استقبال نحو 20 مليون معتمر في العام 2020 من الواجب عليها سحب رحلة الحج والعمرة إلى أبعاد جمالية وروحانية أخرى.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/09/11، العدد: 10748، ص(8)] كل التقييمات والتشخيصات التي تقارب موسم الحج انطلاقا من مقاربة مادية صرفة وزاوية مالية بحتة تجانب الصواب بشكل أو بآخر، لا فقط لأنّ كينونة الربح تتجاوز مفهوم المداخيل ولكن أيضا لأن المملكة العربية السعودية تجني من وراء إشرافها وإدارتها لمواسم العمرة والحج القوة الناعمة والسلطة الرخوة في قلوب وأفئدة نحو المليار ونصف المليار المسلم. تمتلك السعودية في وجدان العرب والمسلمين خزانا استراتيجيا ناعما باعتبارها حاضنة الحرمين الشريفين وراعية الحجيج والمعتمرين على مدى العام، وهو خزان استراتيجي يجعلها ذات ثقل دبلوماسي وسياسي وحضاري. وهنا تحدّد الجغرافيا الدينية مصائر البلدان ومستقبل العواصم وتضبط الأمكنة المقدّسة رهان القائمين عليها، ورهانات القوى المتربصة بها أيضا. ولئن كانت الملاحظة البارزة في المواسم الماضية بأن السعودية لم تكن تستثمر رمزيا وحضاريا وفنيا في مواسم الحجّ السابقة، فإنّ بصمة سعودية وروحا محلية باتتا اليوم بازغة في أنحاء مكة المكرمة والمدينة المنوّرة. هناك يقظة حضارية يتلمسها الحاج والمعتمر خلال تجواله في المدينة المنورة على وجه الخصوص، قوامها إبحار بالحاج في تاريخ فن الخياطة والتأثيث والتزويق بالنسبة لسجادات الحرم النبوي، إضافة إلى تجوال في تاريخ عمارة المسجد النبوي منذ بنائه البكر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصولا إلى التوسعة الأخيرة للملك عبدالله رحمه الله والتوسعة الحالية للملك سلمان بن عبدالعزيز. النهضة الرمزيّة تتمثّل أيضا في معرض للقرآن الكريم متاخم للحرم النبويّ توجد فيه نفائس المخطوطات من القرآن الكريم إضافة إلى متحف لأسماء الله الحسنى. وفي عمق الأمور استخلاص لا رجوع عنه بأن التحفظ الذي كانت تبديه المؤسسة الدينية من استحضار الماضي بشخوصه وتمثلاته مضى دون رجعة، وأن رؤية حديثة سواء في المسلكيات الاجتماعية أو في الرؤى الاقتصادية أو في الطبائع النفسية للمجتمع السعودي أو في المقاربات الدينية بدأت تحفر عميقا في سوسيولوجيا المجتمع السعودي. وهو الأمر الذي يفسر استعداد السعودية لإنشاء أكبر متحف إسلامي في العالم يكون موقعه بمكة المكرمة في سنة 2030 يكون معاضدا للمتاحف والمعارض الموجودة في البقاع المقدسة، وتكريسا لذات المقاربات التي تتمثل عبرها السعودية مصيرها. لم تعد رحلة الحج منحصرة في ثنائية التعبد والتبضع، بل باتت اليوم أيضا رحلة تجوال في التاريخ والحضارة المعمارية والزمن الإسلامي واستقراء لشخوص الماضي ومعاينة للتراكمات الحضارية والإنسانية. أصبحت رحلة الحج اليوم قراءة في الاجتماع الديني والدين المجتمعي حيث تكون البيئة أداة تطور المقاربات الدينية، والمجتمع عصارة التقدم والتحديث سواء من الفاعل الرسمي أو من الفواعل الاجتماعيين. وبدخول أبعاد أنثروبولوجيا الدين في رحلة الحجّ تكون حلقة كينونة الإنسان قد أغلقت زواياها، فالتعبّد هو علاقة الإنسان بالإله، والتبضّع هو علاقة الإنسان بالإنسان، والمقام هو علاقة الإنسان بمفهوم الزمان والمكان المجتمعيين. في هذا السياق الأنثروبولوجي تتنزل الزيارات التي يقوم بها الحجيج والمعتمرون إلى جبل أحد ومسجد قباء (أول مسجد بناه الرسول في المدينة المنورة قبل المسجد النبوي المعروف) ومسجد القبلتين، حيث أن القيمة التاريخية لمسجد القبلتين قيمة كبرى إذ أنه المسجد الذي شهد تغيير القبلة من المسجد الأقصى إلى بيت الله الحرام بمكة، أثناء أداء المسلمين خلف الرسول لصلاة الظهر. وعلى الرغم من عدم وجود نص ديني لاستحباب الزيارة لمسجد القبلتين إلا أن المسجد لا يكاد يخلو من المعتمرين والحجاج على مدار الساعة، ذلك أن القيمة الاعتبارية والرمزية لهذا المسجد باعتباره نقطة تحول تاريخي من قبلة إلى أخرى تبرز البعد الحضاري والتاريخي الذي باتت عليه اليوم رحلة الحجّ. تمتلك السعودية من الزخم الحضاري والرمزي وحتى الفني خزانا استراتيجيا كبيرا بالإمكان استثماره بصورة أحسن لتأمين الفائدة الروحية والجمالية والرمزية للحجيج والمعتمرين، فالدولة التي ترفع استحقاق استقبال نحو 20 مليون معتمر في العام 2020 من الواجب عليها سحب رحلة الحج والعمرة إلى أبعاد جمالية وروحانية وذوقية أخرى، غير بعد التنسك على أهميته والتبضع على ضرورته في الكثير من الأحيان. كاتب ومحلل سياسي تونسيأمين بن مسعود
مشاركة :