على العكس من كتاب البيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش الذي يحمل عنوان «ليس للحرب وجه أنثوي»، فإن للحرب اليوم وجهاً أنثوياً. كنتُ أتابع الاستطلاع الذي تقدمّه نشرة الأخبار الفرنسية عن التحضيرات الأمنية لاستعراض العيد الوطني الفرنسي... لم أعتد الاهتمام كثيراً بأخبار الجيش، لكن ظهور تلك السيدة أثار اهتمامي، وجعلني أتابع بدقّة كل كلامها وتحركاتها. إنها امرأة جميلة. لا تقل جمالاً عن السيدات الفاتنات اللواتي ألتقيهن في صالونات التجميل أو مخازن التسوق. امرأة بقصّة شعر أنيقة، وماكياج خفيف، ولكنها لا تقل مهارة عن الرجال وهي تصعد طائرة الهيلوكوبتر، وتترأس فريق حماية الجو، إذ تُخصص الدولة طائرتين لحماية السماء الفرنسية من اعتداء ما عبر الجو، أثناء احتفالية العيد والعروض العسكرية، ضمن التقليد السنوي الرائج في الشانزلزيه. جنود في وضعية التسديد، يسدّون باب الطائرة، وهي، القبطانة الماهرة الحسناء، تترأس الفريق، وتهتم بالتفاصيل. سأعترف بشعورين: الأول أنني كنت أراقب القبطانة وكأنني أتتبّع مسيرة امرأة تتحدث عن أمر آخر غير العسكر والسلاح والقتال... أي كانت هي المحور وليس الموضوع، ما يمكنني أن أدعوه بالهمّ أو الاهتمام النسائي، والأمر الآخر أنني كنت معجبة بها، وفخورة بمهارتها وحصولها على موقع خُصص غالباً للرجال. علماً أن السينما الفرنسية والمسلسلات، لا تخلو من صورة المرأة المقاتلة، من دون أن تخدش أنوثتها. ففي مسلسل (كانديس رينوا)، الأم لأربعة أطفال، الجميلة الفاتنة كذلك، التي تعمل في البوليس، وتقود فريق عمل، لا تتنازل (سيسيل بوا) عن أناقة ملبسها، عن أحذيتها الجميلة وألوان معاطفها، بل ومغامراتها العاطفية الموازية للتحقيقات التي تقودها. وفي شارة المسلسل، نراها تمسك مسدسها بأصابعها ذات الأظافر المطلية، مصرّة على استعمال حمرة شفاهها، كما مسدسها، من دون التخلي عن أحدهما. ليست كانديس فقط، بل غيرها كثيرات من نجوم الشاشة، قاضيات ومحققّات ومقاتلات يلقين القبض على المجرمين، ويضعن الأساور الحديدية في أيدي أولئك من دون خوف أو تردد، بمهارة لا تقل عن مهارة زملائهن. إذا كان هذا الاستطلاع قد شدّني، كونه ليس مسلسلاً مصنوعاً بأدوات فنية قد يكون مبالغ بها أحياناً، للعمل على تقدير المرأة وكسر الصورة النمطية التي تقدمها ككائن ضعيف يحتاج للرجل، ومع الحفاظ على ملامحها الأنثوية، فهل هناك رسالة ما، يبثها الإعلام، حول نساء يقدن الدبابات والطيارات ويحملن الكلاشنيكوف والمسدسات ويتدحرجن على الأرض وينزفن، ثم ينتصرن في المعارك أو يُقتلن؟ لماذا كنت أشعر بالفخر والاهتمام متتبّعة استطلاع قبطانة الهيلوكوبتر الفرنسية؟ هل كنت أنتقم من تاريخ الجبن والضعف لدى النساء، الذي أسسه الفكر الذكوري طويلاً؟ هل هناك فكر جديد يُطرح في العالم: الوجه الأنثوي للحرب. تطبيقاً لمقولة ابن عربي، كل ما لا يؤنث لا يُعوّل عليه، فإن تأنيث الحرب يعني اليوم، الوقوع في حب الحرب، أو على الأقل التطبيع مع الحرب. هكذا تصبح الحرب طبيعية ومقبولة، شأنها شأن أي حدث عادي يومي يتعرض له الإنسان، طالما دخلت فيه النساء. في كتابها ذاته، للبيلاروسية سفيتلانا أليكسييفيتش، تذكر في مقدمته التي تحمل عنوان: من حديث مع مؤرخ، عدد النساء المجندات في القوات الجوية الملكية البريطانية، وفي الجيش الأميركي وكذلك الألماني، خلال الحرب العالمية الثانية، وأيضاً في الجيش السوفياتي الذي حوى مليون امرأة في مختلف الاختصاصات العسكرية. ما يعني فعلاً أن دور النساء في الحروب والقتال والدفاع العسكري، ليس صغيراً، لكن الصورة العربية للمرأة المقاتلة، لم تنتشر بعد. بظهور المقاتلات الكرديات في صفوف البيشمركه، كان الجدل عنيفاً، وكان ثمة سخرية من جدائل المقاتلات، لأن صورة المرأة الجميلة المقاتلة، لم تكن في وعينا المشرقي لتتجاوز مساحتها السينمائية، عبر نجمات السينمات الفاتنات يشاركن القتال مع نجوم مشاهير كذلك. أما المرأة المقاتلة بالكلاشنيكوف والمسدس الحقيقي، وعلى الأرض السورية أو العراقية، حيث دخلت الكرديات معسكرات القتال، فهي حالة مرفوضة في اللاوعي العربي، ويتم تجييرها فوراً لمصلحة الإدانة، ربما، ولنعترف بهذا، بسبب النظرة الذكورية الدونية صوب المرأة، فلم يُعترف بدور المرأة في مهن أقل خطورة حتى اليوم، مع التمييز واسع بين الرجال والنساء في العالم العربي، لهذا يصعب الاعتراف بإمكانية المرأة المقاتلة، وينحصر تصديقه في السينما فقط. علماً أن مشاركة المرأة الكردية في القتال يعود إلى فترة لا بأس بها، منذ التسعينات على الأٌقل، حين انضمت الكثير من النساء إلى معسكرات التدريب الخاصة بحزب العمال الكردستاني. هل يتم تجميل الحرب اليوم؟ هل يتم تأنيثها لتستقطب الجميع، ولتستمر عملية التطبيع مع القتال؟ أم أن القتال واجب المرأة كما واجب الرجل، كما يقول جورج، بطل رواية «الجدار الرابع» لسورج شالاندون متحدثاً عن ناتاليا ستيبانوفنا في نصّ تشيخوف، قائلاً لزوجته أورور: يموت المرء من أجل أرضه يا أورور! ناتاليا مستعدة أن تقتل من أجل أرضها. يحق للمرأة، كما الرجل، أن يقتل من أجل أرضه؟ أم أن طرح المرأة في القتال، هو جذب فاتن وتطوير لقبول القتال؟ أو أنه لا يجب أن يكون «للحرب وجه أنثوي»، لأن الإنسان «أكبر من الحرب» كما تقول البيلاروسية أليكسييفيتش، وهذا ما يجب أن نسعى إليه جميعاً. هل نملك اليوم هذا الترف؟ ترف الابتعاد من الحرب!
مشاركة :