في نصه المسرحي «الحفلة التنكرية» الذي كان في الأصل رواية صدرت عام 1941، يتعرَّض الإيطالي ألبرتو مورافيا، لسياسة حكم الشعوب في ظل الديكتاتور، وكيف يتشكل هذا الديكتاتور من خلال المحيطين به، فضلاً عن استعداده الشخصي. كيف يتحول الثوري، الحالم بالتغيير، إلى ديكتاتور عندما يصل إلى الحكم، ويرتبط بالطبقة التي ثار عليها، وينفصل تماماً عن الطبقة التي خرج من بين صفوفها. تعرض مورافيا كذلك لأساليب رجال الحاكم وفسادهم، وحيلهم للاستمرار في مناصبهم، وأهمها إيهامه بأن هناك خطراً يتهدده، وأنهم، وحدهم، قادرون على حمايته، وكيف يدبرون المؤامرات الوهمية لإقناعه بضرورة وجودهم إلى جواره، حتى أنهم ينشئون أحزاباً ثورية وهمية، تقوم على ثوريين سذّج أخضعوا لعمليات غسل دماغ. «الحفلة التنكرية»، تلك الملهاة المأساوية، تقدمها حالياً على مسرح «السلام» في القاهرة فرقة «المسرح الحديث» التابعة لوزارة الثقافة المصرية، مِن ترجمة الراحل سعد أردش، وإخراج هشام جمعة. أدرك المخرج منذ البداية أنه يقف على الحافة، فالنص مشحون بالإسقاطات السياسية التي يمكن أن تنسحب على الراهن، فعمل – مادمنا في إطار التنكر – على إجادة تصنيع القناع، قناع الرؤية الذي ييسر له الإفلات من المساءلة ويجنبه الوقوع في فخ المنشور السياسي، وإن لم يكف، في الوقت نفسه، عن المشاغبة والغمز واللمز، لكنه أحدث جروحاً من دون أن يسيل دماً، مستغلاً فكرة الإبعاد الزمني، ورجال أنظمة حكم مصرية سابقة للإسقاط عليهم، تلميحاً وتصريحاً. يقوم العرض على فكرة الإمتاع وتقديم صورة بصرية تخطف المشاهد «الخفيف» وتبهجه، وبقدر ما تمتع المشاهد «المتمرس»؛ تضربه على أم رأسه وتثير أسئلته وشجونه. تريزور (محمد رياض) ديكتاتور، بدأ ثورياً ثم التحق بصفوف الجيش حتى تمكن من السيطرة على مقاليد الحكم، يملي على مساعده (جميل عزيز) مذكرات في تمجيد الذات وادعاء البطولة، فيما قائد شرطته (محمد محمود) يوهمه دائماً بأن هناك مؤامرة تدبر ضده. هي لعبة السياسة والحكم وتشابك المصالح، فالدوقة (جيهان سلامة) التي تستضيف الحاكم في قصرها لمناسبة افتتاحه جسراً في البلدة التي تقيم فيها، لا تفعل ذلك حباً به أو إيماناً بقدراته، ولكن لأن لها مصالح تريد إنجازها. الماركيزة الغانية (لقاء سويدان) توهمه بحبها له، فقط حتى يفرج عن شقيق لها متهم في قضية سرقة. مصالح متشابكة لعب عليها العرض، مصوراً البذخ الذي تعيش فيه الطبقة الثرية القريبة من رجال الحكم، وغير الراضية عن أوضاعها، إذ تسعى دائماً إلى زيادة ممتلكاتها وضبط أوضاعها. العرض يصور كذلك مباذل تلك الطبقة، ما بين دوقة طماعة ونهمة إلى الجنس، وماركيزة تبيع نفسها من أجل مصالحها، وشقيق لها مجرد لص، بينما الطبقة الفقيرة راضية بأوضاعها وغير راغبة في تغييرها، اللهم إلا فئة قليلة امتلكت الوعي، لكنها أيضاً تدفع الثمن في ظل هكذا حكم. في النهاية تذهب تلك الماركيزة ضحية لإحدى المؤامرات الوهمية التي دبرها قائد الشرطة، ومعها كذلك الثوري الساذج (أحمد يوسف) الذي أوهموه بأنه أهم عضو في الحزب الثوري السري، غير الموجود أصلاً. لعب محمد رياض دور الحاكم المستبد بوعي وذكاء شديدين، خرج عن النص كثيراً ليربط ما يحدث في العرض بما يحدث في الواقع، وكذلك للتخفيف من حدة الشخصية. هو كان يخرج من الشخصية ويعود إليها بسلاسة ومن دون أن يترك فجوات تقلل من حضورها وتأثيرها. وكذلك محمد محمود الذي أُشتهر بأدواره الكوميدية، لعب دور قائد الشرطة المحنك ببراعة تعيد اكتشافه كممثل من طراز فريد؛ قادر على لعب الشخصيات كافة باحتراف يناسب تاريخه الطويل في المسرح. لقاء سويدان، أدت دورها واعية بطبيعة الشخصية ومواصفاتها، وكذلك جيهان سلامة في دور الدوقة، وأشرف عبدالفضيل في دور مساعد قائد الشرطة. تكاملت عناصر العرض، بدءاً من الملابس التي صمَّمتها مها عبدالرحمن، وكانت واعية لطبيعة الأجواء التي تدور فيها الأحداث، والإضاءة التي صمَّمها إبراهيم الفرن غلب عليها الطابع الكرنفالي بما يناسب الأجواء الاحتفالية في معظم المشاهد. وجاءت موسيقى وليد الشهاوي ذات طابع مرح معظم الفترات، واكتفى مصمم الديكور محمد هاشم بتصميم ما يفي باحتياجات العرض: باحة قصر الدوقة، وغرفة نوم ومكتب الحاكم. إنه الإبعاد الذي أراد المخرج من خلاله النجاة بعرضه، وظني أنه نجا إلا قليلاً. الإطالة (ثلاث ساعات) عابت العرض، فهناك مشاهد كثيرة كان يمكن اختزالها من دون تأثير في البناء الدرامي. كذلك عابته أغنية النهاية التي يمكن اعتبارها تشويشاً للرؤية التي سعى المخرج إلى طرحها، لكنه ربما لجأ طلباً للمزيد من التقنع. كذلك عابت العرض تلك الإضافات التي لا لزوم لها، مثل الرقصات الحديثة في بداية العرض ونهايته، والتي اتسمت بالسذاجة، هي والأغاني التي كتبها فرغلي مهران. بعد مقتل الماركيزة والشاب الثوري، يخرج محمد رياض عن النص ليشرح للإثنين سبب موتهما. يقول للماركيزة إنها لعبت على كل الحبال، وللشاب الثوري إنه خضع لعملية غسيل دماغ، وكأنه يفسر للجمهور ما غمض عليه، وهي سقطة للعرض بما أنها تغلق أمام المشاهد أبواب التساؤلات.
مشاركة :