د. محمد فراج أبو النور * تمثل معركة دير الزور واحدة من أكبر المعارك في الحرب على «داعش»، وأكثرها تأثيراً في المجرى اللاحق للحرب بين قوات الجيش السوري وحلفائه من جهة، والتنظيم من جهة أخرى. وتجيء هذه المعركة في سياق تطورات ميدانية وسياسية متلاحقة في سوريا وحولها خلال الأيام والأسابيع الأخيرة. فاقتحام قوات الجيش السوري وحلفائه لدير الزور لم يكن خارج هذا السياق الذي شهد هزائم قاسية أصابت قوات «داعش» مؤخراً سواء على الأراضي السورية أو العراقية «واللبنانية» فأضعفتها إلى حد كبير، وقطعت التواصل بين مناطق سيطرتها، وخطوط إمدادها، وبالتالي أضعفت قدرتها على المناورة بالقوات، وشن الهجمات المضادة غير المتوقعة.بينما كان «داعش» يتعرض للحصار الخانق، ويتلقى ضربات قاسية في الموصل انتهت بهزيمة استراتيجية، كانت قوات الجيش السوري وحلفائه توجه إليه ضربات عنيفة متلاحقة في تدمر وباديتها، وريف حمص وحماة الشرقي، وفي منطقة البادية، بينما كانت (قوات سوريا الديمقراطية) «قسد»، التي يمثل الأكراد الجزء الأعظم منها، إلى جانب فصائل عربية وسريانية وتركمانية.. إلخ- تزحف نحو الرقة، عاصمة ما يُسمى «الخلافة»، وتُحكم الحصار حولها، ثم تستولي على (60%) من أحيائها بمساعدة التحالف الغربي، وعلى رأسه القوات الأمريكية، وبينما كانت القوات العراقية تطبق على تلعفر وما حولها، كانت القوات السورية وحلفاؤها وقوات الجيش اللبناني تقتلع الوجود «الداعشي» في منطقة الجرود ورأس بعلبك، وتؤمن الحدود بين البلدين.وقبل ذلك كانت اتفاقات إقامة «مناطق خفض التوتر» في الجنوب السوري باتفاق روسي ــ أمريكي «في درعا والسويداء على الحدود الأردنية»، ثم في منطقة الغوطة وريف دمشق بإشراف روسي، ثم في ريف حمص بإشراف روسي ووساطة مصرية.. وقد أطلقت يد الجيش السوري وحلفائه لشن الهجمات بقوة أكبر في منطقة البادية وصولاً إلى الحدود الأردنية جنوباً، وفي اتجاه الشرق نحو الحدود السورية- العراقية.وهكذا انفتح الطريق أمام الجيش السوري وحلفائه لشن هجوم قوي باتجاه دير الزور، أسفر حتى الآن عن اقتحام المدينة، وفك الحصار عن أهم الأهداف الاستراتيجية فيها، والسيطرة عليها، وفي مقدمتها مطار دير الزور العسكري، وجبال «الثردة» المطلة عليه وعلى أحياء أخرى، وعلى حقل النفط «التيم».. والأهم: على الطريق السريع دمشق- حمص- دير الزور، وتأمينه على مدى خمسة كيلومترات من الجانبين، وكذلك السيطرة على مداخله إلى المدينة «ساحة البانوراما»، وفتح الطريق لوصول المؤن والإمدادات بجميع أنواعها إلى المدينة.. علماً بأن بعض أحيائها لا تزال تحت سيطرة «داعش»، والقتال مستمر لطرده منها.وتكمن أهمية دير الزور في أنها تمثل قلب منطقة شرق سوريا الاستراتيجي، والسيطرة عليها وعلى المناطق المجاورة لها تفتح الطريق إلى الحدود العراقية القريبة (على مسافة نحو 100كم) ومن ورائها إلى الحدود الإيرانية. وبتعبير آخر فإنه يفتح ممراً برياً بين إيران والبحر المتوسط عبر العراق وسوريا، وهو ما يمثل مكسباً استراتيجياً لإيران، يتيح لها تقديم دعم مباشر- بالطريق البري- لكل من سوريا و«حزب الله» اللبناني، وهو ما تتخوف منه الولايات المتحدة كثيراً، بينما تعده «إسرائيل» خطراً مباشراً على أمنها.علماً أن دير الزور والحسكة هما أكبر محافظتين في سوريا من حيث احتياطي وإنتاج النفط والغاز، فضلاً عن غناهما بالأراضي الزراعية الخصبة والإنتاج الحيواني، ما سيتيح تحسناً سريعاً لموارد السلطة المركزية في دمشق، ويساعدها على إحكام قبضتها بصورة أكبر على البلاد، إضافة إلى ذلك كله، فإن تعزيز الوجود العسكري للقوات الحكومية وحلفائها في دير الزور سيقلص بصورة كبيرة جداً أحلام القيادات الكردية في السيطرة على ريف دير الزور الشمالي والقسم الأكبر من محافظة الحسكة، اللذين تطمح قيادات «الحزب الديمقراطي الكردستاني» لضمهما إلى الكيان الكردي المأمول، بالرغم من أن أكثر من ثلثي السكان فيهما من العرب، فضلاً على أقليات قومية صغيرة أخرى، ولا يمثل الأكراد إلا أقل من ثلث سكان المحافظتين.. وعلى ضوء التواصل المباشر عبر الحدود المشتركة بين القوات السورية والعراقية، فإن علاقات القوى ستميل بشدة لصالحهما، وضد مصلحة الأكراد، خاصة أن العدو التركي القوي يقف مترصداً بقوة لوجود أي كيان كردي كما هو معروف.ولعل ما ذكرناه يكفي لتفسير الاندفاع المفاجئ لقوات «قسد» جنوباً بمحاذاة الضفة الشرقية لنهر الفرات «مدينة دير الزور تقع على الضفة الغربية للنهر»، واستيلائها على المنطقة الصناعية لدير الزور، على مسافة 7 كم شمالاً عبر النهر، وعلى مسافة (15كم) من المواقع الحالية للقوات السورية الحكومية، في محاولة لمنع الأخيرة من التمدد شرقاً عبر النهر، أو شمالاً باتجاه الرقة.. وتم ذلك بدعم أمريكا، وبإعلان من ثاني قادة التحالف الغربي «أمريكي الجنسية»، بأن القوات السورية لن يسمح لها بعبور نهر الفرات نحو الشرق.. علماً بأن قوات «قسد» لا تزال عاجزة عن القضاء على «داعش» في الرقة «40% من أحياء المدينة لا تزال في قبضة التنظيم».. وأن تقسيم القوات يضعف القبضة على «داعش»، ويؤخر معركة تصفيتها، كما أن هذا الوضع نفسه يضعف إمكانية تصدي «قسد» للجيش السوري وحلفائه.نخلص من كل ما سبق إلى أن دخول قوات الجيش السوري وحلفائه إلى دير الزور- بكل تداعياته التي تحدثنا عنها- يؤدي إلى تعزيز قبضة دمشق على الجزء الأكبر من مساحة البلاد، ويفتح الباب للمزيد من هذا التعزيز، وبالتالي فمن الطبيعي أن ينعكس على وضع التسوية السياسية.. وقد رأينا بوادر كثيرة وقوية لهذا الدعم لوضع دمشق خلال المرحلة الماضية، فالرئيس الأمريكي ترامب أعلن بوضوح مؤخراً أن «ما يهمنا في سوريا هو هزيمة داعش».. وهو يشير بوضوح إلى تراجع دعم الولايات المتحدة للمعارضة السورية.. الأمر الذي يؤكد ما أذاعته وكالة «رويترز»- الأحد والاثنين 10 و11 سبتمبر/أيلول- من صدور الأوامر لفصيلين تابعين للجيش السوري الحر بالانسحاب إلى خلف الحدود السورية باتجاه الأردن، والامتناع عن الاشتباك مع الجيش الحكومي، وتسليم أسلحتهما الثقيلة.المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا- وبديهي أنه لا يتحدث من عنده- كان أكثر وضوحاً حين دعا المعارضة السورية لأن تكون «أكثر واقعية»، وأن تضع في اعتبارها أنها «ليست الطرف الرابح في الحرب»، وهو ما أثار غضب الهيئة العليا للتفاوض، وجعلها تصف دي ميستورا بأنه يتحدث كـ«جنرال روسي»، وتدعو الأمين العام للأمم المتحدة لاستبداله.. وهو ما لم يشاركه فيه أي طرف عربي داعم.. وزير الخارجية الفرنسي بدوره أعلن أن بلاده «لا ترى في إزاحة الأسد شرطاً للتسوية السياسية» علماً بأن باريس كانت قد أعلنت مؤخراً أنها تفكر جدياً في إعادة فتح سفارتها في دمشق.وكان ممثلون لشركات فرنسية وألمانية وبريطانية كبرى قد حضروا أعمال المعرض الصناعي الدولي في دمشق مؤخراً، ضمن ممثلين لدول وشركات غربية أخرى؛ لبحث إمكانية المشاركة في إعادة إعمار سورية بعد انتهاء الحرب.. وهي «كعكة» سيصل حجمها إلى «400 أو حتى 500 مليار دولار» حسب تقديرات متفاوتة للخبراء.ولكن بعد كل ما سال من دماء.. وما حل من خراب ومعانة إنسانية.. وكل ما جرى إهداره من موارد وقوى هائلة، فإن كلفة التسوية تظل أهون وأرحم وأكثر إنسانية بما يقاس من كلفة استمرار الحرب. * كاتب مصري
مشاركة :