انتظر الباريسيون سنوات كثيرة قبل اكتمال تأهيل جزيرة «سيغان» الصغيرة، التي تقع وسط نهر السين. احتضنت في القرن الماضي معملاً لسيارات «رينو»، وها هو مشروع ثقافي مبهر على شكل سفينة تمخر عباب المياه، يجري افتتاحه في الجزيرة التي تزيد مساحتها قليلاً عن كيلومتر مربع واحد. ويشتمل المبنى المستطيل على صالة للعروض الموسيقية تعلوها قبة مضلعة فضية اللون، تحيط بها متنزهات خضراء. من هو جدير بتدشين القبة أكثر من ماريا كالاس، مغنية الأوبرا اليونانية الأصل التي رحلت في باريس قبل 40 عاماً؟في معرض شامل عنها يفتح أبوابه للجمهور، غداً، يمكن للجمهور تتبع سيرة فتاة كانت تدعى ماريا آنا صوفيا سيسيليا كالوغيروبولوس، ولدت في نيويورك وعاشت طفولة حزينة؛ لأن والدتها كرهتها وتمنت إنجاب ولد يعوضها عن طفل فقدته. لكن البنت التي لم تتمتع بمواصفات شكلية تؤهلها للعمل في الفن، عرفت كيف تخضع لحمية غذائية لطرح 30 كيلوغراماً من وزنها، ثم لتشق طريقها وتصبح أشهر نجمة للأوبرا في القرن العشرين، بحيث اختصر معجبوها اسمها الإغريقي الطويل وصارت تنادى «لا كالاس»، وهو لقب مسبوق بأداة التعريف باللغة اللاتينية.يكفي أن يجتاز الزائر عتبة القاعة حتى ينسى الجو الخريفي الماطر والمكفهر، الذي يخيم على العاصمة الفرنسية في مثل هذا الوقت من السنة. إن الأنوار المركزة على عشرات الصور وفساتين المسرح والمجوهرات التي خلفتها المغنية وراءها، تكفي لإضاءة تلك البقع الحميمة في روح حياة مليئة، لا بالاجتهاد وتمارين الحبال الصوتية فحسب، بل بالغرام وما يستدعيه من لوعة ودموع. إن رسائل كالاس معروضة هنا، تدلنا على الحزن الذي كاد يودي بحنجرتها الذهبية، بعد أن تخلى عنها حبيب العمر أوناسيس، الثري اليوناني الذي تركها ومضى يسعى وراء جاكي، أرملة الرئيس جون كنيدي، ليضيف إلى مجموعته زوجة كانت تحمل لقب سيدة أميركا الأولى.يطوف الزائر بين 5 آلاف صورة و300 رسالة كتبتها أو وصلت إليها. بعضها مع نجوم من أمثال الممثل الفرنسي آلان ديلون، أو مع رؤساء كانوا يحرصون على تكريمها والجلوس في الصفوف الأولى من حفلاتها، مثل صديقها الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان. لكن الصور ليست هي أهم ما تقع عليه العين في هذا المعرض، الذي يستمر حتى منتصف كانون ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بل تأخذ الأذن نصيبها كاملاً؛ لأن فضاء القاعة يحتشد بصوت «الديفا» التي يندر مثيلها. صوت يمتد على ثلاث طبقات «أوكتاف»، يعززه أداؤها الدرامي الأوبرالي العميق، وهي تقف على مسارح العالم وقفة ملكة، تفتح فمها فتنطلق بلابل تخطف الأسماع. وهناك في المعرض الممتد على مساحة 800 متر مربع، أفلام تسجيلية خاصة جرى تصويرها بكاميرات منزلية في بيتها وفي كواليس حفلاتها، أو أثناء رحلات على متن اليخت «أثينا» الذي كان يملكه أوناسيس، مع مقابلات كثيرة معها، بعضها يذاع للمرة الأولى، تتيح سماع صوتها وهي تتحدث. إنها فرصة نادرة لجمهور لم يعرف صوتها سوى عبر الغناء الأوبرالي.من يصدق أن حنجرتها وهنت بسبب الحزن واهترأت حبالها؟ بين عامي 1973 و1974 قامت ماريا كالاس بجولة غنائية وداعية، ثم تركت نيويورك ومدرسة الغناء التي أسستها هناك، واعتصمت بشقتها الباريسية، لتنطفئ وحيدة وهي في الثالثة والخمسين.
مشاركة :