عرف الفكر العربي، على خلفية هزيمة حزيران (يونيو) 1967، خطاباً ايديولوجياً أرجع الهزيمة الى الثقافة العربية باعتبارها مكمن العلة وسر الإخفاق في مواجهة التحدي الصهيوني. ومع أن الخطاب الثقافوي عميق الجذور في الفكر العربي ويمتد الى الطروح الشعبوية القديمة التي ما لبثت أن استشرت مع النزاعات الاستشراقية في القرن التاسع عشر، لتنزع عن العرب أية مشاركة فاعلة في الحضارة الانسانية، إلا أن خطاب النقد الثقافي لما بعد الهزيمة اتخذ منحى شمولياً بإعادته المسألة الثقافية الى صدارة العوامل الفاعلة في التاريخ مسقطاً الرهانات الماركسية والسوسيولوجية القائلة بأولوية الاقتصاد أو بأولوية العوامل الاجتماعية. في هذه الحقبة التاريخية كتب عبدالله العروي «الايديولوجية العربية المعاصرة» وياسين الحافظ «الهزيمة والايديولوجيا المهزومة» وغالي شكري «ديكتاتورية التخلف العربي» وهشام شرابي «البنية البطريركية: بحث في المجتمع العربي المعاصر» وخلدون حسن النقيب «آراء في فقه التخلف». إلا أن خطاب النقد الثقافي تمثل في وجهه الأبرز عند عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون الذين ذهبوا في رؤاهم النقدية الى الأسس الابستمولوجية للثقافة العربية، بغية تأسيس رؤية عقلانية للإنسان والمجتمع والتاريخ، متحررة من اليقينيات السائدة، منفتحة على كل الأسئلة التي اعتبرت حتى الآن في عداد الممنوع التفكير فيه. بهذا المنحى رأى العروي أن مفهوم التأخر ذا طابع تاريخي، وأن عقل التراث متأخر عن عقل الحداثة القائم على المبادرة والإبداع والإقدام، ما يتطلب القطع قطعاً تاماً ونهائياً مع الأول وتبني الثاني لا رجعة فيه، والكف تالياً عن الاعتقاد بأن الفعل الانساني يعيد ما كان، وأن التقدم لا يعدو أن يكون بعثاً لأشباح الماضي، إذ من المستحيل إيجاد أجوبة عند أجدادنا لمشكلات لم تطرح إلا بعد القرن الثامن عشر ولا أصول لها في الماضي. وعلى هذا الأساس ذهب العروي الى أن «صيرورة الواقع الاجتماعي، نسبية الحقيقة المجردة، إبداع التاريخ، هذه هي معالم الفكر العصري وقوام المجتمع العصري». هذا الخطاب الثقافي هو ما صدر عنه محمد عابد الجابري، إذ رأى أن العقل بوصفه الأداة المنتجة للقواعد المنظمة للواقع الاجتماعي العربي المتخلف، هو مصدر الخلل الذي يجب أن يتوجه اليه النقد، لتحديثه وتغيير مسلماته وأبنيته السائدة، من أجل تحول تاريخي في صالح الإنسان العربي، المهمة الأساسية لمشروع «نقد العقل العربي» الذي رام الجابري من خلاله إحداث تحول نوعي في مسار النهضة العربية. وأول ما يجب كسره هو القياس، بإحداث قطيعة تامة مع بنية العقل المتحدر من عصر الانحطاط وامتداداتها في الفكر العربي الحديث، من خلال ممارسة نقدية صارمة، ممارسة تشكل في ذاتها موقفاً ضد التقليد. في الإطار نفسه، دعا أركون الى مراجعة نقدية صارمة للعقل الإسلامي، مراجعة بطولية للماضي والحاضر على السواء، مراجعة يجب ألا تهمل أي عقبة من العقبات المتراكمة على مر العصور. كل الأخابير المغلقة يجب أن تفتح ويحفر حولها. كل المعارف الخاطئة يجب أن تعرّى وتدان. كل الأساطير ينبغي أن يكشف عنها النقاب. باختصار ينبغي تغيير كل شيء من أساسه. وهكذا دعا أركون الى إخضاع الظاهرة الدينية للنقد باستخدام كل منهجيات العلوم الانسانية ومصطلحاتها لإضاءة التراث الإسلامي من الداخل ومعه كل الظاهرة الدينية، بغية الخروج من السياجات الدوغمائية المغلقة والتحرر من النزعة المذهبية التي أصبحت تشكل في العقدين الماضيين تهديداً فعلياً لعالمنا المعاصر وللعالمين العربي والإسلامي. إذا لم تحصل هذه الإضاءة، فسوف يستمر الصدام بين مخيالين قائمين على الكره والنبذ المتبادل منذ قرون عديدة. لكن نزع الطابع الأسطوري عن الفكر الديني وتوظيف أدوات الحداثة في نقده وتأويله أثار حفيظة الفقهاء واللاهوتيين، فلم يلقَ مشروع أركون النقدي أصداء إيجابية إلا في أوساط النخبة العلمانية. وأدرك منذ البدء صعوبة مهمته، إذ قال: «كلما كان فكري قوياً، كان رد الفعل ضدي عنيفاً. وإذا وصلت انتقاداتي الى الدائرة الأسطورية لحكايات التأسيس، فإن الحرب «المقدسة» ستشن عليّ فوراً». الأمر الذي حدا بأركون الى تقديم التنازلات ومداراة الفكر السلفي، وقد أقر بذلك باعترافه بتغيير عنوان كتابه من «نقد العقل الإسلامي» الى «نقد العقل العربي» مناقضاً التزامه بالمعرفة العلمية «مهما يكن الثمن الذي ينبغي دفعه باهظاً». في الاتجاه التراجعي نفسه سار العروي والجابري، حيث تنشر في «السنة والإصلاح» 2008 لغة وجدانية غير مسبوقة في مدونة العروي توحي بعودته الى الحضن الدافئ للإيمان، وقد عبّر عن مآله الايديولوجي الخائب، بقوله: «لم أرفع أبداً راية الفلسفة، بل راية التاريخانية، في وقت لم يعد أحد يقبل اضافة اسمه الى هذه المدرسة لكثرة ما سُفِّهت». في الوقت نفسه خلص الجابري من النقد الابستمولوجي للعقل العربي الى مساومات توفيقية تلفيقية، والى الاحتكام الى التراث باعتباره مرجعاً إحادياً، إذ إن «كل ما يقع خارج الشرع يجب أن يلتمس المشروعية داخله»، ولم يتورع الجابري عن إقصاء شعار العلمانية بالكامل. وفي ظل هذا التراجع انتقل الجابري من «نقد العقل العربي» الى «مدخل الى القرآن الكريم» و «فهم القرآن الحكيم». فهل نحن نشهد الآن أفول الخطاب الثقافي بعد نصف قرن من الرهانات الخائبة؟ * كاتب لبناني
مشاركة :