لم يفجر انتحاري مقهى الكوستا في شارع الحمراء نفسه، إذ اعتقلته القوى الأمنية قبل قيامه بمهمته. ولكن ماذا لو كبس زر التفجير قبل إلقاء القبض عليه؟ من المعروف أن مقاهي شارع الحمراء تؤوي بين جنباتها المثقفين في مختلف أنواعهم، الشعراء والروائيين والصحافيين وموظفي وزارة الثقافة الذين يداومون في المقاهي أكثر من دوامهم في مكاتبهم. وتستقبل المقاهي أيضاً العاملين في المجالات البصرية وفي فنون ما بعد الحداثة (post modern) الدارجة هذه الأيام في بيروت، وهؤلاء جميعاً ينتمون إلى أجيال مختلفة، من العجزة إلى الشباب الذين نشر أحدهم مجموعة شعرية أو رواية أو استقبلته واحدة من الصحف الهرمة ليكتب مقالاً ثقافياً فيها. وقد يكون المثقف أيضاً ناشطاً «فايسبوكياً» يكتب شعراً أو نصوصاً أو آراء على الفايسبوك تحشد الكثير من اللايكات والتعليقات، ما يرفع رتبته من «فايسبوكي» إلى مثقف، وهؤلاء كثر في زمن العالم الافتراضي. إذاً لو فجّر انتحاري الكوستا نفسه –لا سمح الله- لأفقد الثقافة اللبنانية عدداً كبيراً من الشعراء والأدباء الذين حصل بعضهم على جوائز من هنا وهناك، والبعض الآخر ما زال ينتظر جائزة تهبط من السماء. والمقاهي التي تستقبل روادها المثقفين تبدّلت أسماؤها وديكوراتها مراراً منذ خمسينات القرن العشرين، فبعدما كانت الشهرة ذائعة لـ «الهورس شو» الذي بات يحمل اسمه «كوستا» في الحمراء ومطعم «فيصل» والـ «أنكل سام» في شارع بلس قرب الجامعة الأميركية، ومقهى «الدولتشي فيتا» في منطقة الروشة، انتقلت هذه الشهرة رويداً رويداً إلى «المودكا» و «الويمبي» و «الكافيه دو باري»، التي كانت تشكل مثلثاً عند تقاطع الشارع الرئيسي. فكانت هذه الحانات تستقبل روادها من المثقفين يومياً، وهؤلاء يدورون بينها من الصباح حتى المساء عندما يحين موعد الانتقال نحو الحانات. فشارع الحمراء يمنح مثقفيه مساحة كبيرة للتسكع ولتمضية النهار وتزجية الوقت في النقاش والاستعراض الأدبي. أما جيل الشباب القادم إلى بيروت أواسط التسعينات، وأنا منهم مثلاً، فكانوا قرأوا وسمعوا الكثير عن بيروت الخمسينات والستينات حين بدأت مقاهي الأرصفة تنتشر في عدد من الشوارع وأولها شارع الحمراء. كانت المدينة تمتلئ وتغلي غلياناً بالوافدين إليها إما نزوحاً من القرى وإما من الدول العربية، ومن هؤلاء مثقفون وكتاب وأدباء وفنانون. ثم قرأ شباب هذا الجيل الشاعر السوري محمد الماغوط متسكع مدينة بيروت الأول وتحديداً قصيدته «مقهى في بيروت». فكانت تتبلور في أذهانهم، صورة المقهى الذي يؤوي المثقفين، فيروح هؤلاء يتبادلون الأحاديث في ما بينهم أو يكتبون مقالاتهم وقصائدهم فيما هم يكرعون القهوة ويعبون دخان السجائر. ثم حين بدأوا يقرضون الشعر ويكتبون بعض المقالات هنا وهناك، راحوا يقلّدون مثقفي الستينات، فيجلسون بدورهم في المقاهي ويدخنون ويشربون القهوة ويكتبون. كانوا يكررون جلساتهم الثقافية ولكن على شكل مهزلة. كانت الحروب اللبنانية المديدة والمتناسلة قد تركت في الشارع مقاهي ثلاثة، هي «المودكا» و«الويمبي» و«الكافيه دو باري». ثم رويداً رويداً راح بساط المقاهي يسحب من تحت أقدام روادها، فأقفلت «المودكا» لينتقلوا إلى «الويمبي» مع دفاترهم وسجائرهم وأصدقائهم. ثم أقفل «الويمبي» فنزحوا نحو «الكافيه دو باري» الذي أقفل بدوره ليرميهم في مقاهي القهوة الأميركية السريعة والمتجددة كـ«الكوستا» و«ستاربكس» و«كاريبو». ولكن من حسن حظ الثقافة اللبنانية ومثقفي مقاهي الحمراء أن الانتحاري كان إسلاموياً وليس انتحارياً يسارياً من الألوية الحمراء أو بادرماينهوف. فإسلامويته منعته من التفكير في تفجير نفسه في حانة من حانات الحمراء الليلية حيث تقام أمسيات شعرية يشارك فيها عدد من شعراء الأجيال المختلفة ويحضرها عدد كبير من الشعراء والمثقفين والمهتمين بمجاملات الجلسات الثقافية، والجمهور الفايسبوكي الذي يتابع الشاعر عبر الفايسبوك ثم يقرر أن يلتقيه شخصياً في العالم الواقعي. فلو فكر هذا الانتحاري بتفجير نفسه في حانة ليلية، لوقعت الكارثة الكبرى التي تضاف إلى الكارثة الأولى أي أفول الصحف والصحافة والثقافة معهما، فيأفل المثقفون أيضاً، فنصير في خواء ثقافي أقوى وأكبر من الخواء الفعلي والواقعي الذي نتخبط فيه في بيروت هذه الأيام. في هذه الآونة تنشط في بيروت الأمسيات الشعرية التي تعقد في النوادي الليلية أو في المقاهي كحانة «زوايا» في شارع الحمراء، أو أمسيات الشعر غير المطبوع والزجل في حانة «مترو المدينة» أو أمسيات شعرية تلقي الضوء على شعراء شباب أو شعراء أغاني الراب أو شعراء من العالم العربي في نادي «زيكو هاوس». وأصحاب المجموعات الشعرية المطبوعة أو قراء الشعر في الحانات، هم إما شعراء قدامى نشروا سابقاً، أو شعراء جدد وغالبهم ممن اكتشف موهبته الشعرية عبر موقع التواصل الاجتماعي «الفايسبوك». فعبر هذا الموقع يكتب كثيرون قصائد أو سطوراً شعرية أو خواطر، ومن يحصل منهم على عدد كبير من الـ «لايك» أو على تعليقات من الأصحاب والأصدقاء تنوّه بالقصيدة أو بالجملة الشعرية، فيشعر أنه بات بإمكانه الخروج من العالم الافتراضي إلى العالم الواقعي. فقصائده التي تلقى إعجاب الأصدقاء الافتراضيين لا بد أن تلقى إعجاب المتابعين الواقعيين. لذا انتشرت في بيروت منذ مطالع القرن الواحد والعشرين «موضة» القراءات الشعرية التي سرعان ما استقطبت الرواد الراغبين في التعارف أو الإطلاع على الجديد الشعري، فتحوّلت حانة «جدل بيزنطي» التي يملكها الشاعر شبيب الأمين إلى مركز اللقاء الأسبوعي، وتلتها حانة «الدينمو» التي كان يملكها الشاعر علي نصّار، ثم حانة «شبابيك» التي كان يملكها الشاعر حسن م العبدالله، ثم تلتها حانة «درابزين»، وقبل كل تلك الحانات كان مقهى «شي أندريه» الشهير في شارع الحمراء نقطة انطلاق هذا النوع من السهرات أو الأمسيات الشعرية. ومع غض النظر عن الإنجاز الأمني وتجلياته على المستوى الإعلامي عبر القبض على الانتحاري قبل تفجير نفسه، فلا بد من القول إنه تم إنقاذ الثقافة اللبنانية من جائحة كانت لتعصف بها عبر مقتل عدد كبير من المثقفين. وكما هو معلوم فإن الثقافة اللبنانية ليست بحاجة إلى جائحة جديدة تضاف إلى الجوائح الكثيرة التي تعصف بها.
مشاركة :