تبدو الصحافة بالنسبة لكثير من المبدعين المهنة الأكثر قربا من الإبداع، ممما يدفعهم للتوق إلى العمل في الصفحات الثقافية سواء كمشرفين عليها، أو محررين بها. بيد أن المثقفين العاملين في المجال الصحفي والإعلامي أصبحت أعدادهم في تزايد مستمر، وأصبحوا مؤثرين وفاعلين، ما حول الأمر إلى ظاهرة تستحق وقفة تأمل عن مدى التقاطع الذي يجده المبدع بين أن يكون صحفيا يسلط الضوء على ما صدر حديثا من كتب، أو يجري حوارا مع مبدع آخر، وبين أن يكون مبدعا فقط يمارس مهنة بعيدة عن النفوذ الإعلامي. يشير الشاعر أحمد سويلم، إلى أن الإعلام العربي لم يتمكن من فهم طبيعة المثقف العربي وهويته أيضا، حيث مازال يتعامل معه وكأنه مادة للإشهار أو كنجم يستجلب به الجمهور العريض، وما يؤكد ذلك استحالة إيجاد فضاء إعلامي عربي يهتم بتجربة المثقف تحليلا وتوسعا ونقدا، ويضعها كمقياس لفهم التحولات الثقافية في العالم العربي، باستثناء بعض الملاحق الثقافية الجادة في القليل من العواصم العربية، غير أن هذه الملاحق تعاني أحيانا من الضيق المادي نتيجة نقص في الدعم، مما يجعلها عرضة للتوقف والاندثار، ومن ثم توقف المد الثقافي الإبداعي في الإعلام. ويوضح سويلم، أن الإعلام العربي صار في أغلبه داعما للمشاريع السياسية للأنظمة العربية، مقابل تهميش كل ما هو ثقافي جاد وجيد وذو قيمة، سواء كان يتعلق بالفكر والوعي أو الهوية، وحتى في البلدان التي عاشت وتعيش تجربة التحولات السياسية اليوم، تركت الكاتب العربي بعيدا، واهتمت أكثر بالسياسة، وغالبا ما تتعامل مع الكاتب كتابع سياسي، غير مستقل بذاته كمبدع، وحامل لمشروع حداثي، لافتا إلى أنه حين تتواجد مؤسسة إعلامية ثقافية، نجدها متوقفة معطوبة، لا علاقة لها بما يحدث ثقافيا إطلاقا، وهو ما يجعل الكاتب والمثقف العربي يعول على إمكاناته الخاصة ليصل، فليس هناك حل لهذه الوضعية في المدى القريب. في المقابل، يعتبر الكاتب الروائي كريم عبدالقادر، الصحافة عالما مجاورا للكتابة الأدبية، ولعلها سلّطت الضوء على النصوص، وعلى الفعاليات الثقافية، وجعلت الكاتب مضيئا، من هذا المنطلق رأت الصحافة باكرا، في أولى خطاها تتحسّس طريقها في عالم الكتابة، وهي تعتقد أنها اختارت ولوج عالم الصحافة، وبمرور الوقت أصبحت ضرورية بالنسبة لها، ولا يمكن أن تبتعد عنها إلا لتعود إليها بشغف أكثر، لأنها عالم ممتع، رغم أنه يستنزف صاحبه كثيرا، إن كان هواية، ويصبح عقابا إن كان مهنة. ويجد عبدالقادر أن الصحافة الثقافية في الوطن العربي قد تطورت عما كانت عليه، وربما استفادت من الوسائل الافتراضية فأصبحت تقتفي أثر المثقفين وتتتبَّع إبداعاتهم، وتنوع مصادرها، مؤكدا أن واقع الصحافة الثقافية في كثير من البلدان العربية بدأ يستعيد عافيته بعد انتكاسة كبيرة، ما يتضح في تخصيص كل جريدة لمساحة على صفحاتها قد تزداد أو تتقلص حسب التوجه العام للجريدة، لما هو ثقافي وفكري، إلا أن السؤال الأهم هو: ما الذي تحتويه هذه الصفحات؟ فالصفحات الثقافية تحت منحى الخبر الصحافي، بدلا من نشر إبداعات المثقفين الجدية والدراسات النقدية، وتلك إشكالية كبيرة. كذلك فإن بعض الملاحق الثقافية الحزبية تكرّس نفس الأسماء، ولا تنفتح على الأسماء الجديدة الموجودة، بالإضافة إلى ذلك هناك الكثير مما يُقال عن العلاقة بين السياسة والثقافة، وصحف الأحزاب، ورغم هذه المظاهر غير المطمئنة أصبح بإمكان المثقف العربي السفر بكل يسر عبر المواقع الإلكترونية، والمجلات العربية والخليجية، التي لا تحتكم سوى إلى الجودة ومعايير الإبداع. • التفرغ للكتابة أمر مستحيل الكاتبة الروائية سمر نور ترى أن أن التفرغ للكتابة الأدبية أمر مستحيل بالنسبة للمبدع، تقول: ظننت في بداية حياتي الأدبية أن الصحافة هي مجال العمل الأقرب للكتابة، لكن هذا الظن جانبه الصواب، فالصحافة شغف مختلف عن الأدب، ومعطل في كثير من الأحيان، الصحافة، خصوصا في البدايات، لا تحتمل شركاء لمن يمتهنها، حيث تلتهمك ضرورة متابعة كل ما هو يومي وتستنزفك دوائر الصراعات، وملاحقة الزمن، مما قد يؤجل مشاريعك الأدبية، حتى تستطيع حفر مكان لك بين كل هذا الزحام، وإدارة حياتك بحيث يمكنك التنقل بين المجالين، ولكن من جانب آخر، كل أديب لا بد له من مجال آخر للعمل كي يستطيع الحياة، إلا قلة من المحظوظين الذين يمكنهم التكسب من الكتابة الأدبية، وهذا غير متاح في عالمنا العربي، والصحافة مجال خصب في اكتساب معارف إنسانية متشعبة، تتيح لك الخوض في تجارب قد لا يخوضها من يعمل في مجالات أخرى، مما يمنح الكاتب أدوات جديدة وخبرات متجددة. في حين ترى الروائية ضحى عاصي أن الصحافة الثقافية هي الأضعف. تقول: العالم العربي مسيس جدا وغير معرفي، وفي جو كهذا لا يمكن أن تحتل الثقافة الواجهة، وبالتالي فإن الصحافة الثقافية لن تصل إلى الواجهة، وإذا كنا بصدد صحافة ثقافية متخصصة فليس علينا البحث كثيرا لأن العناوين معروفة، وهي غالبا مجلات تهتم بالشأن الثقافي ولكنها في الوقت ذاته تسعى إلى الانتشار، ما يعني أن عليها أن تكون جماهيرية وتبحث في حاجة هذا المتلقي، وهنا أشير تحديدا إلى مجلات مثل "الإمارات الثقافية"، و"العربي" و"الدوحة" الثقافية، وباقي المجلات لا تلقى انتشارا، بعضها محلي والبعض مضطرب الصدور، موضحاً أن الفعل الثقافي لا يخص الإعلام لكنه ينمو بالإعلام، فتأسيس فعالية ثقافية يصبح حدثا مهما بصحافة ثقافية فاعلة وقوية. وتشير ضحى إلى أن الصحافة الثقافية تقدم الممكن المتاح، وإن كانت تفتقد كثيرا إلى زوايا نقدية بناءة في معظم الإصدارات، وإحجام تلك الإصدارات عن اكتشاف المواهب المبدعة وتقديمها، بل تكتفي بوضعها في الصفحات الحرة، مؤكدة أن الكتاب والأدباء هم الأقدر على العمل في مجال الصحافة الثقافية، وذلك حتى تكون عملا خلاقا وليست مجرد متابعة أو مسايرة لهذا النشاط أو ذاك، فنحن مازالنا في انتظار صحافة ثقافية أكثر عمقا تلعب دورا فكريا حقيقيا في المشهد العربي.
مشاركة :