أمبرتو إيكو: في السنة الثامنة يكتمل تأليف الرواية بقلم: عبدالله مكسور

  • 9/16/2017
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

أمبرتو إيكو: في السنة الثامنة يكتمل تأليف الروايةلكل كاتب عالمه الخاص في اتجاهه نحو الكتابة أو سعيه إلى تثبيت بصمته في حقلٍ يشكِّل أحد أعمدة الحضارة الإنسانية في كل ثقافة من ثقافات الأرض، على خصوصيتها فإن الكتابة تمنح صاحبها كثيراً من المساحة لقول ما لا يمكن أحياناً قوله في الواقع، وقد قرأنا أو شاهدنا كثيرا من الإحالات القضائية لكُتَّاب حول العالم بسبب كتاباتهم.العرب عبدالله مكسور [نُشر في 2017/09/16، العدد: 10753، ص(17)]كاتب يكشف أسرار الأدب الكاتب والروائي الايطالي أمبرتو إيكو المولود عام 1932 في مدينة ألساندريا، بإقليم بييموتني في إيطاليا، لعائلة يشتغل الأب فيها كمحاسب قبل أن تستدعيه الحكومة للمشاركة في الحرب العالمية الثانية، هذه الظروف انعكست بشكل مباشر على حياة الطفل الذي انتقل مع والدته إلى قرية جبلية في إيطاليا، لينتسب في شبابه إلى جامعة تورينو لدراسة فلسفة القرون الوسطى والأدب، حيث حصل على درجة الدكتوراه عام 1954 في الفلسفة حول توما الأكويني. بعد رحلة طويلة في العمل الإعلامي والبحثي والكتابي، أصدر قبل وفاته في ميلانو بست سنوات كتابا وسمه بعنوان “اعترافات روائي ناشئ” عن دار غارسي الفرنسية، وقد ترجمه إلى العربية سعيد بنكَراد وأصدره المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء بالمغرب، حيث يعتبر هذا الكتاب من طبيعة خاصة، فهو ليس رواية وليس سرداً قصصياً أو تنظيراً في فن الرواية، إنه سلسلة من التأملات في عوالم السرد كما يراه إيكو. الكتابة والتلقي قسَّم أمبرتو إيكو كتابه هذا إلى أربعة فصول هي على التوالي “الكتابة من اليسار إلى اليمين، المؤلف والنص والمؤولون، ملاحظات حول الشخصيات التخييلية، لوائحي”، في هذه الفصول تناول الكاتب بتفصيل شديد كل نقطة على حدة، في محاولة منه للخروج من الواقع المعيش نحو عوالم أكثر تخييلية، يضعنا مثلاً في مواجهة حزن الإنسان على مصير شخصية روائية أو قصصية- رغم خياليَّتها وعدم وجودها واقعاً- وفي المقابل عدم اكتراثه لمصير الملايين من البشر على هذه الأرض يفوق قدرهم المأساوي قدَرَ تلك الشخصية. يتناول أيضا قضية الردود في عملية التلقي أو انعكاس النصوص الأدبية في نفوس القراء، يعتبر ذلك مفصلاً في علاقة الكاتب مع المحيط وعلاقة المحيط مع النص، من خلال هذه العلاقة يقيس قدرة الكاتب على محاكاة الواقع الأصلي، لكنه يؤكد على أن الاختلاف في التأويل يحمل دوما ردودا متباينة أو ينطلق من موقف مسبق لدى المتلقي، هذا الموقف المسبق ناتج في الأصل من خلفيات ثقافية أو اجتماعية أوإثنية وغيرها، يقول إيكو في الكتاب “إن مواطن الاختلاف تعود إلى الردود المتباينة للمؤلفين تجاه التأويلات التي تُعطى لكتاباتهم، فإن قلت لفيلسوف ولعالم ولناقد فن ‘لقد كتبت كذا وكذا؟’، سيكون بإمكانه دائماً أن يجيبني: يبدو أنك لن تفهم نصي بشكل جيد، فأنا قلتُ العكس تماماً”. تجارب في الكتابة يحكي الكاتب في هذا العمل عن تجاربه الكتابية، وقصص ولادة رواياته، ولا يكتفي بهذا فقط، بل يسعى إلى نقل انعكاسات النص عند البعض من القراء، يروي مثلاً قصة طالبَين اثنين، قاما بتقديم ألبوم مصور لكل الأماكن التي عبر بها “كوسوبون” بطل رواية “بندول فوكو”، ولم يجد الطالبان أن الأماكن مطابقة تماما لما ورد في الرواية، يقول المؤلف هنا إنهما تعاملا مع النص من موقع القارئ النموذجي المهموم بمواقف القارئ الفعلي، الذي يريد أن يتأكد من التفاصيل. هنا يشير المؤلف إلى معرفته المسبقة بوجود محلات مثلاً في شارع شهير ببراغ، لكن ينفي معرفته الدقيقة بأشكال الناس الموجودين واتجاهاتهم، هو يكتب عن حالة متخيلة في مكان قد يكون مطابقاً للواقع وقد يكون غير مطابق تماما لما يراه القارئ الذي يسعى وراء الصورة المتخيلة باعتبارها صورة حقيقية أو يريدها كذلك.تأملات في الكتابة والقراءة والمغامرة الأدبية في تسجيل مصوّر ضمن فيلم وثائقي، شاهدت لقاءً مع أمبرتو إيكو، كان يتحدث عن تفهمه للكُتاب من الشباب المتحمِّس للنشر، لكنه يدعو في ذات الوقت إلى الانتظار، إلى إعطاء الوقت الكافي لنضوج الفكرة والكِتاب معا، يعبِّر عن استغرابه في قيام كاتب بإصدار عمل واحد كل سنة، بالنسبة إليه فالنص يحتاج ست أو سبع أو حتى ثماني سنوات للاختمار كما يقول في فيلم حمل اسم “كلمات”، نجد هذه الفكرة بوضوح تام في كتابه “اعترافات روائي ناشئ”، حيث يتحدث الكاتب عن فترة الاختمار الأدبي بانتظار اكتمال نضوج الكتاب والفكرة معاً. يقول أمبرتو إيكو “بماذا كنت أملأ وقتي أيام الاختمار الأدبي؟ كنت أفعل ذلك بجمع الوثائق وزيارة الأماكن ورسم الخرائط، وتدوين تصاميم البنايات، بل قمت بتصميم البواخر، كما حدث ذلك في رواية ‘جزيرة اليوم السابق’، والتحديث في وجوه الشخصيات أيضاً، أما بالنسبة إلى ‘اسم الوردة’ فقد قمت بإنجاز بورتريهات لكل راهب من الرهبان الذين كتبت عنهم، لقد كنت أقضي سنوات التحضير تلك في ما يشبه القصر المسحور، أو إن شئتم، في قصر خاص بالفنانين المعتزلين، لا أحد كان على علم بما كنت أقوم به، ولكن اهتمامي كان منصبّا على التقاط فكرة أو صور أو كلمات تخص قصتي”. استوقفتني أمثلة أمبرتو إيكو التي استوحاها من الأدب العالمي، فيضرب مثلاً في عمل شكسبير المسرحي “حكاية في الشتاء”، المشهد الثالث من الفصل الثالث يدور في منطقة تدعى “بوهيم”، بلد صحراوي يوجد على ضفاف البحر، وفي الحقيقة فإن “بوهيم” لا شواطئ لها، كما من المؤكد أنه لا وجود لحمَّامات من النوع الذي ذكره النص في سويسرا، لكن القارئ يُسلِّم بأن “البوهيم” في العالم الممكن لمسرحية شكسبير هي شاطئ بحري، ويتعامل مع هذه المتغيرات كما لو أنها حقيقية، وذلك اعتبارا وانطلاقاً من العرف التخييلي وبحكم تعطيل الشك. في مستوى آخر من الطرح يتناول الكاتب الاثباتات التخييلية ضد الاثباتات التاريخية، فيقول “هل يمكن مثلا اعتبار اثبات تخييلي من قبل ‘آنا كارنينا انتحرت بأن ألقت بنفسها تحت عجلات القطار’ صحيحاً، بالطريقة نفسها التي يشير إليها إثبات تاريخي من قبيل ‘انتحر أدولف هتلر وأحرقت جثته في مخبأ أرضي في برلين؟’، حدسياً نحن مضطرون للإجابة بأن ما قيل عن آنا كارنينا هو من صنع الخيال، وما قيل عن هتلر يعود إلى حدث تاريخي وقع فعلاً”. إن كتاب “اعترافات روائي ناشئ” وإن قام في عنوانه على جُملةٍ مُخادِعة لواحد من قامات الأدب في ايطاليا والعالم، يضعنا أمام الطرق الشائكة التي يسلكها الكاتب خلال عملية إنتاج النص أو خلال مرحلة التحضير للفكرة ومناقشتها مع الذات أو الإعداد لها بذخيرة قرائية قائمة على التنوع، وهو في ذات الوقت مرجع هام لمَن يريد أن يكتشف آليات التفكير التحليلي والتركيبي عند كاتب اعتمد على ثيمات متنوعة في إنتاجه الأدبي واشتهر خلال سنوات حياته بسعيِهِ الدائم إلى اقتناء الكُتُب النادرة في العالم.

مشاركة :