كان المشركون في الجاهلية يحجّون إلى بيت الله الحرام، ويطوفون حوله عراة، وقد أحاطوه بآلهتهم من الأصنام، كلٌ يحجّ إلى صنمه، ويلبّون في ذلك "لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك". ولما جاء الإسلام، دين التوحيد الخالص، أبطل ما اعتادوه من أعمال الجاهلية، فحرّم التعري، وأزال الأصنام، وجعل التلبية توحيدية خالصة "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". وفي ذلك إفراد لله بالتوجه الخالص والعبودية الخالصة، فلا إله سواه، ولا ربّ سواه، فالذي خلق وحده، ويرزق وحده، ويدبر الكون وحده، هو الحقيق بالعبادة وحده. والسؤال بعد ذلك: هل هذه التلبية خاصة بالحج فقط؟! والإجابة قطعاً: هذه التلبية تلبية خاصة بالحج لفظاً، لكنها تلبية عامة، تلزم المسلم في كل حياته، وكل أحواله، ولا إسلام إلا بها. لكننا نجد آسفين، أن كثيراً من المسلمين يذهبون لتأدية فريضة الحج، ويلبّون، ثم لا تعني لهم هذه التلبية أكثر من شكل من أشكال الحج ولازمة له. فإذا انتهى الحج وعادوا إلى دورهم وحياتهم وأعمالهم، عادوا كأنهم لا يعرفون تلبيةً ولا تكبيراً، عادوا يلبّون إلى غير الله ويكبرون غير الله. إن إله الحج هو إله العام كله. والذي طلب منّا أعمال الحج مع تكلفتها الكبيرة فلبّينا إليها، هو الذي يطلب منا في كل يوم وليلة أعمالاً أقل تكلفة. ومن الغباء وعماية البصيرة أن نسعى للأكبر تكلفة، ثم نتهاون في الأقل. لكن من زاوية أخرى، تبدو الأعمال في غير الحج هي الأكبر تكلفة، فأن يكون الدين بالنسبة للبعض مجرد موسم للطاعة، مهما كانت صعوبتها حينها، ثم يعودون بعدها إلى حيواتهم، فيعيشون كما يريدون، ويلعبون كما يريدون. فهذا هو أسهل دين وأفضل دين. أما أن يشكل الدين فلسفةً وإطاراً للحياة كلها بكل سكناتها وحركاتها، فلا يتحرك الإنسان حركة ولا يسكن سكنة إلا وللدين فيها قولاً وأمراً، فهذا ما لا تطيقه إلا نفوس المؤمنين حقاً، لا المؤمنين شكلاً ومواسم. رأينا في موسم الحج هذا العام، ونرى في كل عام، كثيراً من رجال ونساء الفن والإعلام والسياسة. ثم يعود هؤلاء وأولئك من حجهم، يعودون لعريهم وفسوقهم ونفاقهم وظلمهم، يعودون، ثم يعودون في المواسم القادمة للحج مرة أخرى! لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي أخرجه أبو نعيم، قوله: "لا يقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه". وإن كان هذا الحديث قد ضعّفه بعضهم، إلا أن معناه في غاية الصحة، فإن الإسلام دين لا يقوم إلا كاملاً في التصور والسلوك والممارسة، ولا يقوم بهذا الدين ولا ينصره إلا من أحاطه من جميع جوانبه، لا أولئك الذين اتخذوا القرآن عضين، يأخذون بعضه ويذرون بعضه. هناك من يتعامل مع الدين على أنه مجرد علاقة عقلية بين الإنسان والله، تتمثل هذه العلاقة في تعرُّف هذا العقل على الله، وإثابته، ثم لا شيء بعد ذلك، لا عبادات ولا تشريع، لا أوامر ولا نواهي! وقد رأيت واحداً من هؤلاء، وهو شاعر كبير، يستهزئ بعبادة الصلاة، ثم يقول إنه متيقن من أن الله سيربّت على كتفه يوم القيامة وهو آخذٌ بيده إلى الجنة! ومن الناس من يتعامل مع الدين على أنه مجرد خطرات ومواجيد قلبية، ليس بعدها شيء، وليس قبلها شيء، وهي كل شيء. وأوّلوا في ذلك قوله تعالى: "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" بأن اليقين مرتبة، يصل المؤمن إليها من شدة الوجد والتعلق القلبي بالله، فإن وصل إليها سقطت عنه الأوامر والتكاليف. ومن الناس من يظن الدين مجرد عبادات وشكليات. ومع الحرص عليها، للفرد بعد ذلك أن يشرّق ويغرّب في حياته ما أراد، فلا رقيب ولا حسيب. مجرد عبادة، وموسم للعبادة، ثم بعد ذلك يعودون لذنوبهم وخطاياهم! لا يقوم بهذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فإن كان بعضهم يقولون: لبيك عقلاً، وبعضهم يقولون: لبيك قلباً، وبعضهم يقولون: لبيك جسداً، وبعضهم يقولون: لبيك مواسم- فلا يقول المؤمنون الصادقون إلا: "لبيك دائماً وأبداً، لبيك عقلاً وقلباً وجسداً". ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :