"المادة المضادة" تجربة تشطر الشخصية وتفتت ذاكرتها بقلم: طاهر علوان

  • 9/18/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

المادة المضادة تجربة تشطر الشخصية وتفتت ذاكرتها التجربة مغامرة والحياة شريط ذكريات، وما بينهما يقف الكائن متحيّرا ما بين خوض المغامرة وبين الحفاظ على الذات بكل تاريخها المخزون في شكل ذكريات، لكنّ الإشكاليّة تتسع في سينما الخيال العلمي في ما يتعلق بالذاكرة والوعي واللاوعي والآخر، وكل ما لا يمكن تلمّسه أو إدراكه لأنه يقع في دائرة المجهول، وهو ما كان سيبقى ثيمة مفضلة في أفلام الخيال العلمي.العرب طاهر علوان [نُشر في 2017/09/18، العدد: 10755، ص(16)]شخصيتان تواجهان بعضهما لعلّ الغوص في قرارة الذات واللاوعي ليس موضوعا جديدا في سينما الخيال العلمي، ولكن الإشكالية تكمن في المقاربات التي تتم من خلالها معالجة هذه الثيمة، وهي التي درسها عدد من الباحثين مثل فرنسيس ييتز في كتابها “فن الذاكرة” وكذلك الباحثين ليديك بليت وإنيك سميلك في كتابهما “تكنولوجيا الذاكرة في الفن”، وتضمّن فصلا معمقا عن موضوع الذاكرة في أفلام الخيال العلمي. وهنا تذكّر الكتاب أفلاما عالجت هذه الثمية منذ عقود منها فيلم “تشارلي” (إنتاج 1968) و”الرجل النهائي” (1974) و”حالات التغيير” (1980) و”روبوكوب” (1987) و”ماتريكس” (1999) و”الرجل الحديدي” (2008) و”بداية” (2010) وغيرها. وفي فيلم “المادة المضادة” (إنتاج 2017) من إخراج كير بوروز، وهو من أصل جنوب أفريقي ويعيش حاليا في بريطانيا يعرض لثيمة الذاكرة وتشظي الشخصية من خلال أبحاث العالمة آنا (الممثلة ييزا فيجيورا) القادمة من الولايات المتحدة ومن أصول إسبانية لتجري أبحاثها في جامعة أوكسفورد البريطانية لتنظم إلى فريق عمل يتكون من نيت (الممثل توم دوفي) وليف (الممثلة فيليبا كارسون). مشروع آنا يتعلق بتحوّلات المادة وانتقالها عبر النانو والثقب الذي يجري إحداثه في الفراغ الزماني والمكاني لتنتقل إلى مجال حيوي آخر، وهي تنجح تباعا في ولوج ذلك العالم المجهول وتعقّبه من منطلق ذكائها المفرط وطاقتها التخيلية العميقة التي تدفعها بحماس زائد أن تكون في الأخير هي عيّنة التجربة، وهي التي سوف تنتقل إلى ذلك العالم المجهول لتؤكد صحة نظريّتها ومشروعها. على وفق هذه الدراما سوف نكون في مواجهة شخصية تفقد أدنى صلة لها بما كانت تعيشه، فهي تتحول إلى كائن لا يأكل ولا ينام ويفقد بالتتابع ذكرياته وماضيه، ولهذا تضطر إلى تسجيل كل شيء في يومياتها للإمساك بأهداب وجودها الحيوي، وفي وسط هذا تقع في دائرة الاتهام بأنها وفريقها قد تسببا في بثّ فيروس دمر الآلاف من الكمبيوترات والمنصات الرقمية، فضلا عن كونهم ضمن فريق يجري التجارب على الحيوانات، مما يؤلب جموعا غفيرة من طلبة الجامعة المدافعين عن حقوق الحيوان لينخرطوا في تظاهرات متواصلة تكون آنا أحد المستهدفين مع أنها تنفي عن نفسها تلك التهمة. في هذه الأجواء المحتدمة تضيع شخصية آنا وتتشظى ولا تدري في أي مسار تسير وتترسخ في عقلها أن الكل يتآمرون عليها ومنهم زميلاها في المشروع، متهمة إياهما بسرقة جهودها والوشاية بها لننتقل بعدها إلى أجواء بوليسية وعنف وملاحقات ومطاردات، بينما آنا الشخصية المحورية تغرق تدريجيا في ذلك الواقع الغريب. وعمد المخرج إلى استخدام خطوط سرد متعددة أخفت حقيقة زميلي آنا، فهل هما معها أم ضدّها؟ وتختلط أيضا علاقة زميلها نيت، وهل هو حبيبها أم عدوّها؟ بينما آنا تواصل المضي في ما يشبه دور التحري للوصول إلى الحقيقة، لكن تلك الحقيقة المطموسة تتعلق بكائن آخر ابتلعته تلك التجربة وتركت كائنا محطّما، هو الذي تمثله العالمة آنا التي بالكاد تلملم بقايا مشاعرها وأفكارها. بدت الحوارات خاصة مع القسم الأول من الفيلم مترهلة للغاية وهبطت بإيقاعه إلى حد كبير، حوارات رتيبة ذات طابع مسرحي ثقيل، لكن ما بعد انتصاف الزمن الفليمي كنا أمام تحولات حقيقية تصاعدت بالدراما وبالزمن السينمائي إلى إحساس عميق بإشكالية الزمن في حد ذاتها بكل ما تعنيه من ترابطات تتعلق بالشخصية وماضيها وما تختزنه. ويبدو أن التحوّل الذي قلب الدراما قد خبأه المخرج وكاتب السيناريو إلى المشاهد الأخيرة من الفيلم عندما نكتشف أننا أمام شخصيتين تواجهان بعضهما، وكل منهما تدّعي أنها آنا الحقيقية، بينما في الواقع أن نسخة افتراضية نتجت من ولوج آنا إلى ذلك الفضاء الزمني المجهول، وهي التي فقدت خاصياتها البشرية من قبيل تناول الطعام والنوم والاستذكار، ويقع سجال بين الشخصيتين ذا طابع عاطفي مؤثر ينتهي بعودة النسخة الافتراضية إلى حقيقة تكوينها ومن ثم تختفي ويعود فريق العمل الثلاثي إلى أبحاثه. لا شك أن الفيلم علاوة على كونه ينتمي إلى نوع الخيال العلمي، إلاّ أن المخرج وكاتب السيناريو نجحا في الزج بعناصر درامية إضافية منحت الأحداث متعة خاصة في المتابعة، لا سيما في مشاهد المطاردات والمجهول الذي اقتحم شقة آنا والتفاصيل غير المكتملة لدور المحقق في تحري شخصية آنا، وهي جميعا عمّقت الأحداث وبها تجاوز المخرج إشكالية الحقائق العلمية المجردة التي ظل يضخها مع المشاهد الأولى للفيلم.

مشاركة :