اختفاء الطفلة المغربية زينب أدى إلى انهيار القرية بقلم: فيصل عبدالحسن

  • 9/18/2017
  • 00:00
  • 11
  • 0
  • 0
news-picture

اختفاء الطفلة المغربية زينب أدى إلى انهيار القرية تمنح الرواية لكاتبها القدرة على تحميلها أكثر الأفكار عمقا من خلال حكايات بسيطة يمكن للقارئ استيعابها بشكل أكثر نجاعة وسلاسة، وهذا ما نجح فيه الكثير من الروائيين الذين حمّلوا حكاياتهم قضايا بشرية مختلفة.العرب فيصل عبدالحسن [نُشر في 2017/09/18، العدد: 10755، ص(14)]حتى القرى فقدت براءتها تعتبر رواية “جرح غائر” للباحث الأنثروبولوجي المغربي بوشعيب الإدريسي تتويجا لبحوثه في الدراسات الأركيولوجية، التي ابتدأها بكتابيه “حفريات في السلالة البشرية” عام 2000، و”جدلية النشأة والتطور” عام 2017. “جرح غائر” من الروايات القليلة التي تحدثت عن عالم القرية بالمغرب. تدور جل أحداثها حول حادثة محوريّة، هي خطف الطفلة زينب، التي كانت تعيش في إحدى القرى المغربية البعيدة عن المدن، ولها طبيعة سياحيّة ساحرة. تبدأ الرواية، الصادرة عن مركز النورس زيرار بالدار البيضاء، بعبارة باللهجة المغربية التي نجدها بكثافة في الرواية “وناري زينب خطفوها”. وزينب طفلة في الثامنة من عمرها، لا يترك خطفها للأم “عيشة” سوى اللّوعة، والحزن. تتساءل مذعورة “بنتي؟ خطفوها؟”، نظرت إلى محفظة زينب عند عتبة الباب، وصرخت “لا، لا”. تهرول الأم في الزقاق، باحثة عنها، ولكن زينب اختفت إلى الأبد. هل هذا معقول؟ في هذا الزمن يختفي الأطفال بهذه السهولة؟ فقد غادرت الطفلة بيتها صباحا ذاهبة إلى مدرستها ولكنها لم تعد. خُطفت من داخل المدرسة، وهذا زاد الموضوع غموضاً، وجعل وقع الخطف مخيفاً. ذهبتْ إلى حَمّام المدرسة، لتقضي حاجتها في الاستراحة، لكنها لم تخرج منه أبداً.الكاتب لا يضع القارئ على مسلمات واضحة حول الجريمة بل يجعل الظنون هي السائدة حول الفاعل الحقيقي تحاول إدارة المدرسة التنصل من مسؤولية الخطف، فتدعي المديرة أنَّها خُطفت بعد فترة الدراسة، وخروج التلاميذ. وهنا يقدم الكاتب ببراعة أجواء كابوسية ذكرتنا بقصص وروايات الرعب. وفي خضم ذلك يرسم بمهارة عالم القرية، وما يحدث فيه، فيقدم عوالم شبيهة بعوالم رواية “فرانكشتاين” للبريطانية ماري شيلي. كما تتقاطع مع قصة “سقوط بيت آشر” للأميركي إدغار آلان بو، ومع رواية الإيرلندي برام ستوكر الشهيرة “دراغولا” التي صدرت عام 1847، وغيرها. الكاتب لا يضع القارئ على مسلَّمات واضحة حول الجريمة بل يجعل الظنون هي السائدة حول الفاعل الحقيقي. “كانت معانا” أضافتْ إحدى التلميذات، وهي متشبثة بجلباب أمها. تقول “وضعت محفظتها حدانا في الساحة، وذهبت إلى المراحيض، وحين تأخرتْ ذهبنا أنا ومريم وحليمة إلى المراحيض، ولم نجدها هناك”. نقل السارد حالة الذعر من خلال حوارات دارجة، وتيار الوعي، إلى جميع بيوت القرية، فساد الخوف لدى الجميع. وعلى عادة أهل القرى عندما لا يجدون ما يفسرون به حادثة ما، يلجأون إلى خلق أسطورة حولها، لكي يتعايشوا مع الواقع الجديد. يؤجل شيخ القرية ومقدمها بحث الحالة إلى الصباح. ويطلب المقدم أوراق الضحية الثبوتية “بطاقة الحالة المدنية، وبطاقة المدرسة”. ويسرد الراوي فصول مأساة زينب وأمها “عيشة” في بحثها المستمر عن خيط ما يوصلها إلى ابنتها. ويصف الكاتب الأم وصفاً صادماً بعد هذه النكبة. “لقد شلت الصدمة كل أطرافها وحواسها. جهازها العصبي صار عاجزاً عن التركيز والتفاعل مع الحدث”. اختطاف زينب يأخذ بعداً نفسياً خطيراً على الطلاب، والمعلمات. فتصاب إحدى المعلمات بحالة هستيريّة، حالما ترى مقعد طالبة أخرى فارغاً، فتعتقد أنَّ “مريم” تم اختطافها أيضاً، فتصاب بانهيار عصبي.وصف صادم لفصول مأساة زينب وأمها تضامن أهل القرية نفسياً واجتماعياً مع أم زينب، لكنهم لا يعرفون كيف يعالجون الموضوع، ولم يكن لديهم غير التأسّي وعبارات التهوين على الأم. خلقت مسارد الرواية المتعددة، وتقنية التقطيع، موازنة نفسية دقيقة بين مخاوف الناس على أولادهم، ومحاولتهم تهدئة خواطر بعضهم البعض، بأنَّ عملية الخطف لزينب عمل فردي. وأملهم أن تستمر الحياة بالرغم من التهديد المستتر لخاطف مجنون يعيش بينهم، وربما سيكرر ذلك. وشيئاً فشيئاً أخذوا يعتبرون وقوع الحادثة مصادفة لا أكثر. وأنَّ الضحية، ربما وقعت بيد مُغْتَصب مهووس قام باغتصابها، وقتلها، ودفنها في مكان مجهول، وغادر القرية إلى غير رجعة. وما أكثر المجانين في القرية من الوافدين، الذين يخفون جنونهم بما يتعاطونه من حبوب هلوسة، أو مخدرات. وحدها بقيت أم زينب غارقة في معاناتها، فأهملها حتى زوجها بسبب صدمتها على فقدان ابنتها، وتركها لبحثها الدائم عنها في دروب القرية، وسلوكها الطرق الموحشة خارج القرية صوب الوديان والمغارات. في بحث يائس عن ابنتها.. تتوالى التحولات في القرية بمضي الزمن، فيهاجر معظم شبابها إلى إيطاليا وفرنسا بحثاً عن حياة أفضل، لكن معظمهم يفشل، ويعود، وبعضهم يموت غرقاً في البحر كحمزة أحد شباب القرية. ويهاجر قسم آخر إلى المدينة، كعلي السداري وغيره. ويأتي زمن الاستثمار، فيتم تهديم بيوت القرية، وتتغير طبيعة المكان، فيتم تحويل القرية “لبناء مشاريع سياحية ومنطقة خضراء وفنادق ومقاه ومطاعم وأماكن رياضات وساحات غولف وفيرمات ورود، لجذب رؤوس الأموال، والمقاولين للعمل في المنطقة”. شخصيات أخرى تتوالى في الرواية، كعبدالمالك، الذي يهادن شيخ القرية ومقدمها. وأمينة، إحدى جارات أم زينب التي ترى مأساتها. وتتكرر عملية خطف الفتيات من مدرسة القرية، وتختلف الروايات حول خطفهن. الوحيدة أم زينب لا تنسى ابنتها، وتبقى شاهدة حية، متنقلة من مكان إلى آخر باحثة عنها، ناعية زمن البراءة والأمان الذي ضاع في قريتها. السارد تابع تحولات القرية المغربية، وموت البراءة فيها في زمن الاستثمار، من خلال قصة خطف لطفلة ذكرتنا بحبكة القص البوليسي. يقول السارد “ساكنة الحي رحلوا. بعض البيوت صارت خراباً بعد أنْ نُزعت الأبواب والشبابيك. نُزعت مصابيح الأزقة، فساد الظلام ليلاً. وانقطع ماء الشرب، وحوصر من أجلوا رحيلهم عن القرية. لا كهرباء ولا ماء ولا أمن”. وكل ذلك سبق ظهور الجرافات، التي بدت كالديناصورات الصفراء تتلوى أعناقها، وهي تحطم الجدران والأسقف.

مشاركة :