عندما اشتد عود الصحوة الإسلاموية في الخليج مطلع الثمانينات، كان الحديث لا ينفك داخل الأوساط الحركية عن «ما بعد الشيوعية». والتبشير بالإمساك بمفاصل المجتمع على طريقة التغيير من القاعدة حديث قيادات الحركة الإسلامية في السعودية والخليج. وباستثناء المؤسسة الدينية الرسمية، كان هذا الجدل يشمل فئات عريضة من «الإخوان»، والحركة السلفية «السرورية»، وحتى جماعات صغيرة مستترة كـ«حزب التحرير» الذي كان يستهدف النخبة في التخصصات العلمية، الفيزياء والهندسة، عبر شخصيات أكاديمية لكنه لم يحظ بانتشار أو سيطرة باقي الجماعات الحركية.يمكن القول إن الحديث عن ما بعد الإسلام السياسي في المنطقة والخليج، لم يأت وليد اللحظة؛ بل هو جدل كان حاضراً في قراءة مفكرين غربيين منذ التسعينات، في عز نشوة الصحوة والحضور الكثيف في المشهد السياسي وفي مفاصل مؤسسات كثيرة، أبرزها التعليم والقطاع الخيري، محمولين برافعة اقتصادية هائلة. وربما كان المفكر الفرنسي أوليفيه روا أحد الأوائل ممن كتبوا عن ظاهرة ما بعد الإسلام السياسي، في كتابه «فشل الإسلام السياسي 1992».بالطبع مصطلح «المابعد» بما يتضمنه من تجاوز وانحسار مرحلة، لا يعني القطيعة الكاملة قدر أنه يشير إلى أن حالة تسيد المشهد الاجتماعي والسيطرة على الحقل الديني وصولاً إلى التأثير على القرار السياسي، لم تعد للإسلاميين منذ سنوات طويلة، حتى قبل فترة الربيع العربي التي كانت كاشفة لانكشاف هذه المشروعات ذات اللافتات الدينية إلى مشروعات انقلابية على طريقة الدولة داخل الدولة، لا تستهدف الهرم السياسي كما تفعل جماعات العنف المسلح التي انشقت عنها؛ بل تستهدف القاعدة الجماهيرية والشرعية الدينية، وتنازع في ذلك عدداً من الكتل الأخرى، على رأسها المؤسسة الدينية الرسمية التي عاشت لحظات ابتلاع للآيديولوجيا الحركية، قبل أن تتقيأها عند أول نازلة تحول تلك الآيديولوجيات إلى معارضة سياسية مباشرة مهددة للـ«سلطان» والسلطة، وكانت في السياق السعودي على وجه الخصوص أزمة الخليج هي فاتحة ذلك الانقسام؛ رغم أن بقاء ظاهرة الإسلام السياسي بعدها كان مرهوناً بفشل أدائه ومشروعاته، وخروجه عن عباءة الدولة عبر الشره السياسي واستعجال النتائج، أكثر من تضييق السلطة ذاتها عليه الخناق، كما هي روايته للمظلومية لأتباعه وللمتعاطفين معه.الإشكالية أن قراءة ظاهرة الإسلام السياسي حتى عند الباحثين الغربيين تتم على طريقة قراءة الأحزاب السياسية، وأن كثيراً من المقارنات تعقد مع مرحلة ما بعد الشيوعية، وهذا جزء من أسباب خلل القراءة وعطلها، فالظواهر الدينية والسياسية في العالم العربي، وفي الخليج بشكل خاص، متداخلة حيث الديني معجون بالسياسي إلى حد يشي بكثير من التعقيد. ومشروع الإسلام السياسي رغم كونه انقلابياً؛ إلا أنه لم يتخذ طريقة عمل الأحزاب الشمولية السياسية؛ بل اكتفى في مراحل زمنية كثيرة بكعكة السيطرة على «الحقل الديني»؛ باعتباره الأكثر تأثيراً على خيارات وقرار السياسي في دول متدينة ذات طابع محافظ، حين تقدم لها المشروعات على أنها ما يمليه الإسلام وليس الإسلاموية أو الخيار الآيديولوجي للحركة، من الصعب جداً أن تتم معارضته بسبب غياب الخطاب المدني الذي أفلح الإسلاميون مبكراً في ربطه بشكل مباشر وتفخيخه بمصطلحات لها مدلولات سلبية، كالليبرالية والعلمانية التي تمت نمذجتها في سياقاتها الخاصة التي أفرزتها، ومنها الثورة الفرنسية، دون البحث عن المضامين التي تم استنساخها بطريقة مقاصدية في مناطق إسلامية، ونبتت بشكل لا يتعارض مع تلك البيئات، كما هي الحال في ماليزيا ومعظم البلدان؛ بل أبعد من ذلك تم استنساخها في الداخل وعمل عليها الإسلامويون أنفسهم في قطاعات مصرفية وقانونية (فض النزاعات التجارية) متجاوزين عقدة الأسماء والمصطلحات التي أثيرت مؤخراً لاستدعاء حساسيتها وليس لمناقشتها بشكل جاد، وهو أشبه بالفخ الذي كان على المؤمنين بالمدنية الوطنية إعادة طرحها وفق سياق وطني جديد مدني، فكلا الطرفين حول دنيوية المدنية إلى مقدس بحصره على التجربة الغربية حصراً، وهو ما شاهدناه قبل سنوات في تقديس أداة «الديمقراطية» من الطرفين وتفريغها من مضامينها التعددية وتكافؤ الفرص والخطاب المدني المجتمعي، لحصرها في لعبة الصناديق، حتى رأينا غزوة الصناديق المباركة، والديمقراطية التي كفر بها أهلها بحسب مظلومية الإسلامويين، تعليقاً على فشل الربيع العربي الذي تم اختطافه في أكثر من مناسبة.الإشكالية اليوم في مرحلة ما بعد الإسلام السياسي، تكمن في وجود قطاعات واسعة في الخليج من الطبقة المتعلمة الوسطى المتدينة التي تتقاطع خياراتها الفكرية ورؤيتها للعالم ضمن إطار منظومة الإسلام السياسي، بما تحمله من طابع حداثوي، في مقابل المؤسسة الدينية ذات الطابع التقليدي والمحافظ الذي قد لا يشبع نهم تلك النخبة، وهو ما زاد المسألة تعقيداً، وعادة الحاجة لا تنتج فراغاً، فما قامت به هو استيراد نماذج وشخصيات من ضمن ظاهرة جديدة، ما بعد الدعاة الجدد، أو العقلانية الدينية، وتم التسويق لها إعلامياً، وحتى من قبل شخصيات ليبرالية كقارب إنقاذ للهروب من مأزق الإسلام السياسي أو التقليدية؛ لكنها وقعت في إشكالية أن هذه الصرعات للإسلام المعاصر شديدة التجريب والتسطيح، لا يمكن أن تكون خياراً مجتمعياً؛ لافتقادها للعمق الديني والتراكم الزمني الذي هو جزء من ديمومة بقاء السلفية التقليدية، أو حتى خطاب أهل القبلة بمعناه العام الذي يحشد كل التيارات ذات الامتداد التاريخي، فهي أكثر المدارس ديناميكية وتطوراً على مستوى الخطاب والإنتاج المعرفي، رغم محافظة مخرجاتها ونتائجها وبطء مسايرتها لتطور مدنية المجتمع وملاحقته للحداثة والعولمة، والإيقاع السريع للأجيال الجديدة، وهو أمر متفهم.والحق يقال، إن جزءاً من إخفاق الإسلام السياسي في السعودية هو راجع إلى أنه خاض منافسة فاشلة مع السلطة التي استوعبته في البداية قبل انكشاف مشروعه الانقلابي، فالسلطة تدين بالإسلام، وفي الوقت ذاته تقدم نفسها على أنها دولة رفاه تسعى إلى تطوير المجتمع منذ أول لحظة، عبر المؤسسات والسوق المفتوحة، وحتى في لحظات الاصطدام مع المعارضات المسلحة، منذ جهيمان، إلى «القاعدة»، فـ«داعش»، لم تقم بردة فعل انتقامية، بل قدمت جزرة التوبة والرجوع والمناصحة على عصا الملاحقة الأمنية، ولم تستهدف السلطة الإسلام السياسي رغم خذلانه لها وللمجتمع، في الحرب على الإرهاب والتطرف، بإعادة تفسيره بملفات سياسية وحقوقية، قبل أن تكشر عن أنيابها في فترة الربيع العربي وتنحاز بقضها وقضيها معه، ثم لاحقاً بعد فشله على الأنظمة السياسية التي انحازت إلى الجماعة الأم و«الإخوان» والأممية التي لم يستطع الإسلام السياسي مراجعتها نقدياً، ودون استيعاب منه بأن تلك الأنظمة تستخدمه كأدوات وكروت سياسية إقليمية، وليس إيماناً منها بأفكاره اللاتاريخية، والتي تتعارض بشكل بنيوي مع مفهوم الدولة القطرية الحديثة، بما تحمله من الارتهان إلى المدنية الوطنية التي تسع الجميع، ومنهم الإسلامويون.
مشاركة :