نزعات الحمائية في البلدان الغربية استمدت ذخيرة كبيرة من الفوضى في الشرق الأوسط وموجات الهجرة وظهور تنظيم داعش، لتنعكس وتنشطر إلى عدد كبير من المظاهر الأخرى.العرب سلام سرحان [نُشر في 2017/09/19، العدد: 10756، ص(12)] حين يركب السياسيون الانتهازيون في بريطانيا موجة غضب الهامشيين الرافضين لانفتاح العالم وتعزيز حرية حركة الأشخاص والسلع والخدمات بسبب عجزهم عم مسايرة المنافسة المفتوحة وحين يركب الرئيس الأميركي الموجة المماثلة في الولايات المتحدة، فإنهم لا يدركون أن عجلة التاريخ ليس فيها خيار العودة إلى الوراء. ردة الفعل في البلدين وبلدان كثيرة في أنحاء العالم تبدو طبيعية بسبب جرعة التغييرات الهائلة التي حدثت في العقدين الماضيين مع تسارع الاتصالات وكان لا بد أن تنفجر في مكان ما مثل البريكست وفوز ترامب لكي يتم اختبارها والتعامل معها ومعالجتها. ففي فرنسا مثلا ورغم فوز الرئيس ايمانويل ماكرون الكبير في الانتخابات الرئاسية لا بد ألا ننسى أن ما يقارب 34 بالمئة من الفرنسيين أيدوا مرشحة اليمين المتطرف بدعواتها الحمائية والعنصرية التي تفوق مثيلاتها في بريطانيا والولايات المتحدة. ولو كانت ماريان لوبن أقل تطرفا بدرجة بسيطة فلربما حصلت على تأييد أوسع. وقبل ذلك كانت النمسا على حافة الهاوية حين أيد أكثر من 46 بالمئة مرشحا في أقصى درجات الحمائية والعنصرية. وقبل ذلك كاد حزب الخمسة نجوم أن يقلب الطاولة في إيطاليا. ومثل ذلك حدث في هولندا وسيحدث في ألمانيا وغيرها حيث تؤيد نسب كبيرة من الجمهور الجماعات التي تدعو إلى الانغلاق، وهو مؤشر خطير حتى مع فشلها في الحصول على الأغلبية في الانتخابات.موجة الانغلاق والحمائية ستنقلب في جميع أنحاء العالم حين يتراجع البريطانيون عن قرار الانفصال وستتحول الشرارة التي انطلقت وانطفأت في بريطانيا إلى درس لتعزيز العولمة دعوات الانغلاق وفرض السياسات الحمائية ومعاداة المهاجرين لا تنفصل عن مظاهر الردة إلى الأصولية والتطرف والعودة إلى كهوف الماضي التي تفجرت في عالمنا العربي، فهي مظهر آخر لرفض موجة فتح الأبواب بين شعوب العالم. بل إن نزعات الحمائية في البلدان الغربية استمدت ذخيرة كبيرة من الفوضى في الشرق الأوسط وموجات الهجرة وظهور تنظيم داعش، لتنعكس وتنشطر إلى عدد كبير من المظاهر الأخرى. ويمكن أن تؤدي نهاية تنظيم داعش وانحسار الفوضى في الشرق الأوسط إلى تراجع زخم دعوات الانغلاق والحمائية. تلك الموجات المتشابهة في جوهرها في جميع أنحاء العالم يقدم وقودها العاجزون عن التأقلم في عام تنفتح فيه أبواب التفاعل والمنافسة العادلة ويتزعمها الزعماء والسياسيون الانتهازيون، الذين يريدون الفوز بأي ثمن. هناك مقاومة طبيعية مثل مقاومة الجسم أو خلية نحل لتحولات كبيرة قبل أن يتمكن من هضمها وإدراك عجزه عن الوقوف بوجهها وكذلك استجابة قوى الانفتاح لهواجس المهمشين والغاضبين. شبح هذه الموجة المخيفة تفجر في بريطانيا بالتصويت للانفصال عن الاتحاد الأوروبي في منتصف العام الماضي، ولولاه لما تمكن ترامب من الفوز في الانتخابات الأميركية ولما اتسع نطاق تأييد الجماعات التي تدعو إلى الانغلاق في بلدان أخرى. وفي بريطانيا نفسها ستبدأ موجة انحسار موجة الحمائية والانغلاق حين يكتشف البريطانيون استحالة تحريك عجلات التاريخ إلى الوراء. ما كان بالإمكان التنصل فورا من نتائج تصويت البريطانيين للانفصال عن الاتحاد الأوروبي، لكنهم سيدركون في نهاية المطاف أن تنفيذه مستحيل حين يبدأون بدفع ثمن خطوات الانفصال الأولى. قبل سنوات حصل خلل في نقطة دخول وخروج على حدود بريطانيا مع فرنسا على ضفة القنال الإنكليزي فبلغت طوابير الشاحنات نحو 200 كيلومتر. فما بالك لو فرضت إجراءات جمركية على جميع المعابر مع الاتحاد الأوروبي. وقد بدأت فواتير الانفصال الباهظة تظهر شيئا فشيئا وسوف تؤدي في نهاية المطاف إلى انقلاب تدريجي في الرأي العام حين تصل نيران عواقب الانفصال إلى جيوب البريطانيين. لا يمكن للبريطانيين أن يدفعوا ثمن الطلاق الأوروبي، الذي سيعني انفصال اسكتلندا وإيرلندا الشمالية وموت لندن بموت أكبر مركزي مالي في العالم إذا انسحبت المصارف، وسيبدأ بعد ذلك انهيار اقتصادي غير مسبوق، إذا أصرت بريطانيا على الانفصال. لكن بريطانيا لن تصل إلى تلك المرحلة وسيحدث انقلاب في الرأي العام قبل حدوث الانهيار الشامل وقد بدأت بوادره في الانتخابات الأخيرة، في ظل إصرار الاتحاد الأوروبي على معاقبة بريطانيا لكي يتجنب امتداد نيران الشعبوية إلى البيت الأوروبي وتؤدي إلى تفككه لو سمح لبريطانيا بالانفصال دون دفع ثمن باهظ.
مشاركة :