لا يصح استباق الأمور بتغليب قناعات في عدم قدرة محمود عباس على تلبية مستلزمات المصالحتين الفتحـاوية والـوطنية، لكن الفلسطينيين جميعا يأملون في أن تأخذ الأمور سياقها وفق الصيغة التي اجترحتها مصر.العرب عدلي صادق [نُشر في 2017/09/19، العدد: 10756، ص(8)] وسط شكوك شعبية فلسطينية في نوايا طرفيها، أُعلنت بنود اتفاق المصالحة بين سلطتي الرئيس الفلسطيني محمود عباس وحركة حماس، التي يتعيّن على طرفي المصالحة الشروع في تنفيذ كافة بنودها بلا لف أو دوران. فقد جاءت بنود الصيغة، بالنسبة لكل طرف، خليطا من السم والعسل. وإن كل عسلها بالنسبة لحماس يكمن في المسائل التكتيكية، وهي من جنس التفصيلات، كالموظفين وصون السلاح الذي سيحتفظ بصفته كسلاح مقاومة؛ لكن هذا السلاح، في الوقت نفسه، سيظل في غزة يمتلك القدرة على ممارسة الإكراه في أي وقت يشاء، وستظل القوى الأمنية في الضفة تمتلك الشيء نفسه. أما سُمّ التفصيلات فهو يكمن في تأطير حماس نفسها على المستوى الاستراتيجي، في المحور الآخر، الأمر الذي تراه جماعة الإخوان في الإقليم خاتمة الكوارث. فلا مصالحة بالمزاج القطري والتركي، وإنما المصالحة حسب الصيغة، ستكون بالمزاج الفلسطيني الذي تقف مصر الشامخة ضامنة له. في خندق محمود عباس ومن معه، ثمة خسارة فادحة مفترضة، يصعب التصديق بأنه قادر على تحملها. فالمصالحة التي يريدها عباس مضطرا ولم ولن يظفر بها، لا تعدو كونها محاصصة بينه وبين إخوان الإقليم، بحيث يستمر تغييب الإرادة الشعبية. لكن خليط البنود، يجعلها ابتداء، سياقا يتجه إلى التمكين لهذه الإرادة، وهذا هو الكابوس الأول لعباس ولمن معه. وبحكم طبائع الصياغة سيكون رئيس السلطة مطالبا بالتراجع ليس عن قرارات تعذيب غزة بموظفيها ومجتمعها وحسب، وإنما بإحالة قراراته التي سميت مراسيم بقوانين، إلى سلة المهملات، لأن ممثلي الشعب لم يُستشاروا فيها، وهي مرفوضة بمنطقها الإقصائي والكيدي. ولعل من بين أهم الكوابيس أيضا، هو الحضور الفتحاوي الإصلاحي الوازن في المشهد الفلسطيني، بإصراره العنيد على استعادة المؤسسات الدستورية للسلطة، وتكريس الفصل بين سلطاتها الثلاث، لا سيما إعادة الاستقلالية والاعتبار للقضاء، والتئام المجلس التشريعي، وطي صفحة التفرد المقيت، الذي اتسم بالإضافة إلى ذميمة التفـرد، بالتحلل من أبسـط قيـم العدالة واحترام المناضلين أو احترام المجتمع. فضلا عن ذلك ستكون مسألة التنسيق الأمني إشكالا كبيرا على المستويين القيمي والوطني، يمس أمن الفلسطينيين وقواهم الوطنية الحية، إذ لن يسمح الفلسطينيون، في الموضوع الأمني، بقيد أنملة تزيد عن منطق التنسيق الإجرائي مع الاحتلال الذي يُحكم قبضته على الضفة الفلسطينية، ولن يسمحوا بإطلاق يد الأمن العباسي ولا الأمن الحمساوي على المجتمع. من هنا، تأخذ المسائل، بحكم طبائعها، سياقا ذا ترياق يشفي الأطراف كلها رُغما عنها، وهذا ما نُرجح أن عباس سيعانده ويحاول إحباطه، لكي يتلبّس وحده المسـؤولية الحصرية، عـن استمـرار الانقسـام. وهو للأسف، بحكم دواخله، ليس قادرا على دفع مثل هذه الفاتورة الباهظة، على الرغم من اندفاعه إلى أي مصالحة مع حماس، يظنها ستؤمن له خلاصا من خصومه، أو يظنها وسيلة لشطب الدور السياسي الفتحاوي والوطني، للنائب المنتخب وعضو اللجنة المركزية المنتخب محمد دحلان. فوق ذلك كله، وحين تمتلك الكتلة الشعبية حقها في الحكم على الجميع، وتفويض من تريد؛ تنعقد المقارنة بين منطق سلطوي إقصائي لا يقبل رقابة ولا تصويبا ولا نمطا في الحكم والإدارة يطيح بقيمة العدالة، وآخر يدعو إلى كل هذا الذي لا يقبله عباس؛ فإن فرص الأخير ومن معه ستكون بائسة، وستكون حركة فتح أكثر حماسة في استعادة وحدتها بعد إعادة الاعتبار لنظامها الداخلي، الذي لديه كل الضوابط الحامية للعضوية ولحقوق المناضلين ولواجبات الحركة تجاه المجتمع. يؤيد الفتحاويون الإصلاحيون صيغة المصالحة التي تبناها الإخوة المصريون، ويحثون طرفيها على الالتزام ببنودها. ويرون أن من يطالبون بمصالحة داخل حركة فتح، على الرغم من نواياهم الطيبة، قد اجتهدوا لتوسيع دائرة التفاهم الفلسطيني، علما بأن إصلاحيي فتح لا ينتظرون جوابا إيجابيا ولا يسعون إلى جواب إيجابي من عباس ولا يطالبون بمصالحة معه، وإن كانوا مستعدين للنظر في أي مقاربة من جانبه هو نفسه، للذهاب بالسلطة الوطنية وبحركة فتح إلى حال يلائم طموح الفتحاويين إلى عملية إصلاح ووحدة، تجعلهم قادرين على مواجهة التحديات. لا يصح استباق الأمور بتغليب قناعات في عدم قدرة محمود عباس على تلبية مستلزمات المصالحتين الفتحـاوية والـوطنية، لكن الفلسطينيين جميعا يأملون في أن تأخذ الأمور سياقها وفق الصيغة التي اجترحتها مصر، وهي صيغة تعطي الدور الحاسم للشعـب الفلسطيني دون سواه. كاتب وسياسي فلسطينيعدلي صادق
مشاركة :