تونس: طارق القيزانيفي كثير من القضايا بات واضحاً أن قطر تمثل نموذجاً فريداً، ومتفرداً في الضرب تحت الحزام، واعتماد سياسة الوجه والقفا في آن واحد. فقطر من الدول التي نشطت كثيراً منذ عقود على حبلين ومن دون أن يكون لها التزام واضح باتفاق، أو ميثاق وقعت عليه، وكان من السهل دائماً العثور على بصمات هذه الدولة في أي اضطرابات أو قلاقل اجتاحت المنطقة العربية بحجج مغلفة سياسياً.يكفي القول إن الدمار والعنف اللذين يطبقان على مناطق واسعة من المنطقة العربية يأتيان بتمويل قطري صرف، بدعوى تنحية أنظمة سياسية لا تختلف كثيراً في جوهرها عن طبيعة الحكم المفروض على الشعب القطري. ومن المفارقات أن قطر التي روجت بداية لتغيير سياسي سلس في المنطقة العربية عبر معاضدة مطالب سياسية بالتغيير، تنأى بنفسها اليوم عما حصل في سوريا على مدار السنوات الماضية، عبر جر البلاد إلى حرب دولية بالوكالة أضرت بالمدنيين بشكل ليس له مثيل في هذا القرن، من تهجير، وموت، وتدمير ممنهج للبنية التحتية.ولا يزال العالم يتطلع إلى نتائج تحقيقات مستقلة بشأن الروابط الوثيقة بين الدوحة والجماعات المرتزقة عبر العالم، ودورها المحوري في ضخ سيولة كافية لتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة استقطاب دولية للعصابات، والسماسرة، ومهربي البشر. كما كان لقطر أيضاً أدوار متعددة في محاولات الاختراق المتعمدة في شمال إفريقيا، تحديداً بتونس وليبيا، ولهثها المحموم من أجل تمكين الجماعات السلفية والإخوانية من السلطة بدعم الجمعيات الخيرية الوهمية، والأنشطة المخربة للنسيج المجتمعي، والأحزاب المتطفلة، والجماعات العنيفة الملحقة بها.ولئن نجحت تونس في تفادي حرب أهلية، وتحجيم دور الأحزاب المتاجرة بالدين، و«روابط حماية الثورة» العنيفة، عبر الحوار الوطني، فإن ليبيا الجارة، وبسبب افتقادها لمجتمع مدني متمرس، انزلقت إلى نزاع مسلح لم تخرج من دائرته حتى اليوم، في وقت كان يفترض أن تمثل فيه ليبيا المنتعشة اقتصادياً، والمستقرة، مصدر ازدهار لكامل المنطقة بفضل ثرواتها الطبيعية، وحاجتها إلى اليد العاملة.لقد جنت قطر على عدد كبير من الدول العربية في مناسبتين على الأقل، بأن أشعلت أولاً، انطلاقاً من أجندتها الخاصة، «ربيعاً عربياً» مدمراً قام على مبدأ المقامرة بأوطان من دون الوعي بتبعات ذلك ونتائجه. والثاني هي أنها أدارت ظهر المجن لشعوب «الربيع العربي» التي تركت تواجه المجهول بنفسها من دون دعم حقيقي وحماية. وسوريا هي المثال الأبرز لذلك بغض النظر عن سياسات النظام الحاكم فيها.لكن وفي ظل الانطباع السائد دولياً بأن هذا الدور التخريبي يجب أن يتوقف، كما يجب إعادة النظر في سياسة هذه الدولة وسط جيرانها، وإزاء المنطقة العربية والإقليمية ككل، فإن لا شيء حتى الآن يوحي برغبة صادقة لدى من يدير دفة الحكم في تلك الدولة بالعودة إلى الجادة، بل على العكس من ذلك فإن لعبة الخداع والتضليل مستمرة كسياسة رسمية تعتمدها قطر، وتورثها من حكم الأب إلى حكم الابن، وتوظف لها الذراع الإعلامية التخريبية، قناة «الجزيرة»، كمنبر رئيسي دولي جامع للميليشيات المسلحة، والجماعات المارقة عن الأنظمة والقوانين.الواقع الحالي الآن يشير إلى أخطر من هذا الدور التخريبي، وهو أن هناك شعباً داخل قطر يتعرض إلى حالة اختطاف جماعية، وتغييب عن الحقائق الدولية عبر التضليل الداخلي، والاستمرار في التلاعب بمقدرات البلاد من دون الوعي بدقة المرحلة، وخطورتها على الشعب القطري. إن استمرار الدوحة في انتهاج السلوك الصِّدامي والمكابرة مع جيرانها لا يضعها في موقع المتهور فقط، ولكن يزيد من تلطيخ سمعتها مع محاولاتها تسويق حملات استجداء واستعطاف، وشراء الذمم على حساب القضايا الجوهرية المطروحة.ففي الوقت الذي كان يفترض بالدوحة أن تعرض حلولاً حقيقة مع جيرانها الخليجيين والعرب في مسعى لتجاوز الأسباب الرئيسية للأزمة، فإنها تستمر بتعنت في توخي ديبلوماسية إقليمية ذات وجهين، وذات مصالح متضاربة مع منطقة الخليج العربي ككل، ومهددة لأمن المنطقة. كما تبقي الدولة القطرية على تحالف سياسي إخواني خارجي غير مفهوم يتعارض مع مصالح الشعب القطري، ويجعله رهينة لحفنة من بطانة الحكم.فهل طرحت قطر مثلاً، خططاً وطنية عاجلة لمعاضدة المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب، وبالتالي كنس رموز التشدد، والتطرف، والفتنة من فوق أراضيها؟ وحتى إن أبدت الدوحة نوايا في الظاهر إرضاء للمجتمع الدولي، فهل أبانت عن أي استعداد لتنقية الأجواء العربية، واحترام سيادة الأوطان، والمضي قدماً لمكافحة الخطر المشترك؟لا يبدو هذا من أولويات اهتمام الدوحة، على الأقل في الوقت الحاضر، فسياسة قطر الحالية أبعد ما تكون عن لعب دور إيجابي في إصلاح ذات البين خليجياً، وعربياً، كما لا ينظر لها كدولة يعتد بها ويوثق بما تعلنه في الظاهر. هي الآن بكل بساطة في معمعة.فقد بات صدى الأدوار المشبوهة للدوحة يتردد حتى خارج أروقة السياسة والإرهاب، تحديداً داخل الاتحادات الكروية الدولية أيضاً، وأولها أروقة «الفيفا» والاتحاد الأوروبي لكرة القدم، إذ أصبح التغول القطري هدفاً لا يخفي فقط مطامح باحتكار رموز اللعبة بعد احتكار متعة الرياضة نفسها بسياسة التشفير الإعلامي، وإنما أيضاً العمل على توظيف هذا لذاك، أي توريط كرة القدم والرياضة في مشروع قطر الإقليمي التخريبي.ولقطر تاريخ حافل من الاختراق والارتشاء منذ سعيها الجنوني إلى كسب شرف تنظيم المونديال بكل الوسائل المتاحة والممكنة، مروراً بصفقات الاحتكار والتشفير المشبوهة للمنافسات الرياضية، والآن ينكبّ الاتحاد الأوروبي على كشف انتهاكات محتملة لقواعد اللعب المالي النظيف عبر الصفقات المالية المتهورة والاستعراضية لنادي باريس سان جرمان، الفريق الممول قطرياً.ولا تخفى خلف ذلك محاولات الدوحة الخبيثة لجر الرياضة إلى معارك سياسوية قذرة تتضح ملامحها أكثر مع توظيف قنواتها الرياضية المشفرة في تمرير حملات دعائية سياسية وتحريضية مدفوعة الأجر ضد جيرانها في المنطقة، بشكل مناف لقواعد الرياضة والمواثيق الدولية.من وجهة نظر منطقية، فإن كل هذا الدور التخريبي المتعدد الأطراف يطرح خيارين لا ثالث لهما أمام الدوحة والمجتمع الدولي، فإما المضي جدياً نحو التغيير المشترك وفقاً لما تمليه المصلحة الإقليمية والدولية، وإما انتظار مسار آخر للتغيير قد تمليه ظروف أخرى مغايرة على المدى المنظور.
مشاركة :