يعرف البارزاني أن تركيا وإيران والعراق لن تسمح، ولو بالقوة وبالحرب الكبرى، بقيام دولته الكردية المستقلة. لن تسمح هذه الدول بشيوع العدوى باتجاه أكراد إيران وتركيا، بما يشجع قيام كيانات أخرى تتجاوز المكون الكردي أيضا.العرب محمد قواص [نُشر في 2017/09/22، العدد: 10759، ص(9)] إذا ما جرى الاستفتاء يوم الاثنين المقبل فسيختار الأكراد في العراق الانفصال. لا شيء يوحي بأي مفاجأة تعاند ذلك ولا رهانات مغايرة على ما سيخرج من صناديق الاقتراع. غير أن مصائر الأمم لا تحددها تلك الأمم بالضرورة، ودون نزواتها ورغباتها وطموحاتها قواعد الجغرافيا والتاريخ والمصالح وعوامل القهر والقوة. لا أوهام فارغة في رأس مسعود البارزاني رئيس إقليم كردستان. يريد الرجل أن يرقى إلى مستوى رجال التاريخ الذين يسطّرون مفصلاً جذريا في تاريخ أقوامهم. سعى مصطفى والد مسعود للعب نفس الدور في العراق وإيران، وتحقيق نفس الهدف في فترة زمنية سابقة فصعقته حقائق “لعبة الأمم” التي لا تتيح عزفاً منفرداً يخرج عن السيمفونيات المعتمدة والمرخصة في هذا العالم. حاول مصطفى البارزاني وقاضي محمد تمرير دولة مستقلة في مهاباد في إيران عام 1946. أتاحت خلافات الدول الإيحاء للزعيمين الكرديين باحتمالية الأمر، ثم قضت مصالح الدول الكبرى على تلك الدولة بعد 11 شهراً، فأعدم قاضي محمد وغادر البارزاني باتجاه عراقه. قد يصدق ممثل حكومة إقليم كردستان لدى إيران ناظم الدباغ حين سعى، متعثرا، لإقناع العالم بأن الاستفتاء ليس هدفه الانفصال بل تحسين شروط التفاوض، وبالتالي الشراكة، مع بغداد. وقد يجوز افتراض أن رئيس إقليم كردستان العراق يراكم الإنجاز تلو الإنجاز لنفخ تورّم قد يخرج تقرحه قبل يوم الاستفتاء المعتمد في الـ25 من الشهر الجاري. لحكمة تُعدُّ وراء الكواليس قد يعلن البارزاني إلغاء أو تأجيل استفتائه، وقد لا يحصل ذلك. المهم أن أربيل هذه الأيام باتت محجّا يقصده كبار الشخصيات الدولية “مناشدة” رجل كردستان الأول إخراج المنطقة برمتها من تحوّل دراماتيكي لا تحمد عقباه. وفي كل مرة يستمع الرجل إلى ضيوفه الكبار تتوفر له مناسبة إضافية للتقدم نحو العالم بصفته رئيس دولة مستقلة كاملة السيادة، وبصفته هذه يتدلل ويعاند ويلـمّح إلى قبول بحوار أو مخرج سياسي يؤكد ولا ينفي حقّ كردستان بالاستقلال. عمل العالم أجمع، يوما بعد آخر، منذ ما قبل غزو العراق عام 2003، على رعاية طموح الإقليم العراقي نحو الانفصال. بدا أن دستور عراق ما بعد صدام حسين فُصّل على مقاس ما يؤدي حكماً ومنطقيا إلى استقلال الأكراد، بما في ذلك إبقاء فخ كركوك فاعلا للانفجار في أي لحظة. تواطأ أكراد الشمال مع الأحزاب الدينية الشيعية وكافة المنخرطين في العملية السياسية لبول بريمر، ونجحوا في ابتزاز الشركاء لإخراج نصوص دستورية وأمر واقع جيوسياسي يجعل للإقليم حكومة وبرلمانا وبيشمركة وأنشطة اقتصادية وشبكة توزيع وتسويق لنفط يُفترضُ أنه جزء من ثروة العراق برمته. استقبلت العواصم مسعود البارزاني استقبال رؤساء الدول، حتى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تقصّد المبالغة في رعاية الرجل والوصل مع إقليمه وجعله أولوية بالنسبة لتركيا على أهل الحكم في بغداد. هل صب العالم، أجمع، جهوده العسكرية المعقدة للقضاء على تنظيم داعش في سوريا وفي العراق من أجل قيام دولتي الأكراد في سوريا والعراق؟ استفاد رئيس إقليم كردستان العراق كثيراً من ذلك الردح الذي تبادله أردوغان مع رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي، كما استفاد من تلك المنافسة المضمرة بين أنقرة وطهران للتمدد داخل النسيج العراقي. خيّل للبارزاني أن من يلاعبه الكبار سيقبلون به لاعبا مع الكبار. لا شيء يدعو لليقين من موقف العواصم الكبرى في شأن الدعوة إلى غلق باب استفتاء البارزاني. ولئن تُجمعُ البيانات والمواقف الرسمية لواشنطن وموسكو وباريس ولندن وبرلين على التمسك بوحدة العراق وسوريا، فإن الورش الدولية منذ تلك التي أقامت منطقة حظر جوي فوق منطقة الأكراد في شمال العراق في عهد صدام حسين، وصولا إلى الرعاية الأميركية الدولية للأكراد في شمال سوريا، تعاملت مع “العرق” الكردي بصفته تفصيلا يشذّ عن نسيج المنطقة، وتجوز رعايته بخبث ورمادية على النحو الذي يفضحه الدعم الإسرائيلي العلني والفج. وعليه فإن البارزاني لا يرى في “عتب” تلك العواصم هذه الأيام عاملاً يجهض مسعاه. على أن هذه العواصم التي كانت تحدد مسار التاريخ لشعوبٍ وأمم لم تعد تتمتع بنفس الرشاقة القديمة التي اكتسبتها بعد الحرب العالمية الثانية. تكشف هذه الأيام عن مدى تعقّد مصالح الدول الكبرى لاقتسام الحصص والوظائف والأدوار داخل منطقة الشرق الأوسط. وتكشف الأزمة القطرية الراهنة عن مدى عجز عواصم القرار الكبرى عن فرض قواعدها وأجنداتها على الدول المتنازعة، كما يكشف الصراع الذي تشنّه أنظمة المنطقة السياسية ضد تيارات الإسلام السياسي عن قدرة أهل المنطقة على فرض رؤاهم وإراداتهم بما يتناسب مع مصالحهم وأبجديات استقرارهم. بكلمة أخرى لا يبدو أن الخبث الدولي يكفي هذه الأيام لتمرير ما اعتقد البارزاني أنه زمن مؤاتٍ لتمرير مسألة استقـلال إقليمه. وبينما تمتع الرجل كثيرا بتناقض وخلافات الدول حوله لحفظ رأسه وحماية إقليمه والقفز نحو استقلاله، فإن رجل كردستان القوي، ورغم مراسه وتجربته وحنكته، حقق، من حيث يدري أو لا يدري، وحدة حال ومصالح نادرة وضعت نظام أنقرة وطهران ودمشق وبغداد، حتى بمعارضيها، في خندق واحد تصديا لمناورة التفافية أرادها البارزاني أن تمر من وراء ظهر الجميع في موسم البراكين المزدهرة هذه الأيام. وربما الأسئلة التي تطرح نفسها هي هل صبّ العالم أجمع جهوده العسكرية المعقّدة للقضاء على تنظيم داعش في سوريا والعراق من أجل قيام دولتي الأكراد في سوريا والعراق؟ وهل يسمح المستثمرون في هذه الحرب “الكونية” الكبرى ضد الإرهاب بأن يحصدها البارزاني ببساطة وسهولة لصالح أحلام إقليمه وطموحاته الشخصية داخل هذا الإقليم؟ وهل يستطيع العالم رعاية قيام دولة الأكراد في المنطقة في وقت تتقدم به خرائط الإعمار في سوريا والعراق على خرائط العسكر وأولوياتهم؟ قد لا ندعي إدراكنا للأجوبة، لكن ما يمكن الجزم به أن انخراط العالم في ورشة اقتصادية إعمارية تاريخية في منطقتنا يجعل من المنطقة لا تتحمل وزر الصدام مع إرادات دول هذه المنطقة. يعرف البارزاني أن تركيا وإيـران والعراق لن تسمح، ولو بالقوة وبالحرب الكبرى، بقيام دولته الكردية المستقلة. لن تسمح هذه الدول بشيوع العدوى باتجاه أكراد إيران وتركيا، بما يشجع قيام كيانات أخرى تتجاوز المكوّن الكردي أيضا. ويعرف الرجل أن لا حياة لكيان تحاصره دول لا تريـده أن يكون كيانا آخر في خـارطة المنطقة. سيكون على الرجل استثمار أقصى ما تحمله الساعات المقبلة لقطف أقصى ما تطاله يده من بغـداد وأنقرة وطهران وعواصم أخرى. وأيا كانت مآلات ذلك الاستفتاء سواء جرى أو لم يجر، فسيطوي البارزاني ملف الاستقلال ويعيده إلى خزائن داخلية بانتظار مواسم أخرى قد لا تكون قريبة وعاجلة. في هذا الزمن لا تمتلك المنطقة ترف قيام دول على النحو الحضاري الذي قامت به دولتا تشيك وسلوفاكيا عام 1993. وفي هذا الزمن لا تمتلك المنطقة ترف قيام دول حتى بالنسخة التي أنتجتها حرب يوغسلافيا المدمرة، ذلك أن أمصالا مضادة، عززها موقف البارزاني، ما زالت ناجعة، وحتى إشعار آخر، في منع تحقيق طموح كردي أهملت “سايكس- بيكو” تحقيقه في بدايات القرن الماضي. صحافي وكاتب سياسي لبنانيمحمد قواص
مشاركة :