ماكرون وميركل يصران على ألا تندم أوروبا على خروج بريطانيا، أما تيريزا ماي فلم تقدم لمواطنيها بعد ما يبعد عنهم مخاوف الندم على خروج بلادهم من السوق الأوروبية.العرب محمود القصاص [نُشر في 2017/09/23، العدد: 10760، ص(7)] بلغة صريحة وواضحة، أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يانكر أن بريطانيا ستندم على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وأنه على الرغم من أن مغادرة بريطانيا للاتحاد هي “لحظة حزينة”، إلا أنها لا تمثل مستقبل أوروبا، إذ أن الأوروبيين اختاروا أن يكون اتحادهم أقوى وأكثر تماسكا. وأكّد يانكر في خطاب “حالة الاتحاد” الذي ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في 13 سبتمبر بنبرة تفاؤل واضحة أن “الرياح عادت في صالح السفن الأوروبية”، بعكس ما كان عليه الحال منذ عام واحد. ودعا إلى مؤتمر في رومانيا في 30 مارس 2019، بعد أن تغادر بريطانيا الاتحاد بشكل رسمي، لبحث السبل الكفيلة بجعل الاتحاد الأوروبي أكثر ديمقراطية وأشد قوة. قبل سنة، واجه الاتحاد الأوروبي مجموعة من الأزمات، من أبرزها أزمة اللاجئين التي أثارت انقسامات واسعة في أوروبا وخلافات عميقة حول سبل التعامل معها والمخاوف من وصول أحزاب اليمين الشعبوي إلى الحكم، علاوة على تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد، وذلك للمرة الأولى منذ تأسيسه. لكن، الصورة تغيرت كثيرا في عام واحد. ويمكن رصد ثلاثة متغيرات هامة ساهمت في أن تكون الرياح في صالح من يبحرون بسفينة الاتحاد الأوروبي نحو بر الأمان؛ أول هذه المتغيرات نجاح إيمانويل ماكرون في الفوز برئاسة فرنسا بفارق واضح متغلبا على زعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، التي كانت تكيل الانتقادات للاتحاد الأوروبي وترغب في خروج فرنسا منه بأسرع وقت ممكن في حال فوزها بالرئاسة. وقبل وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه في باريس، تمكن رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، من الفوز في الانتخابات البرلمانية في هولندا على أبرز منافسيه، وهو حزب الحرية الشعبوي الذي يتزعمه خيرت فيلدر، وهو حزب يعادي المهاجرين ويرفض مشروع الوحدة الأوروبية بصورته الحالية. وشكل فوز كل من روته وماكرون ضربة قاصمة لليمين الشعبوي الذي كان يتطلع إلى الوصول إلى الحكم، خاصة بعد فوز دونالد ترامب بمقعد الرئاسة في الولايات المتحدة، وتصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي. أما المتغير الثاني فهو تمكن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من احتواء أزمة المهاجرين التي أثارت حملة غير مسبوقة ضدها وربما كانت أكبر تحد لميركل منذ توليها الحكم. استطاعت ميركل التوصل إلى اتفاق مع تركيا ساهم كثيرا في تخفيض أعداد اللاجئين الوافدين إلى أوروبا، كما حكمت المحكمة العليا الأوروبية مؤخرا بإلزام المجر والتشيك بقبول حصص من المهاجرين، كما كانت ترغب ميركل. وتشير استطلاعات الرأي إلى أن الحزب المسيحي الديمقراطي، الذي تتزعمه ميركل، على وشك تحقيق فوز مريح على منافسه الرئيسي، وهو الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وذلك على الرغم من محاولة زعيم الحزب، مارتن شولتر، استخدام ورقة اللاجئين ضد ميركل، إلا أن محاولاته لم تحقق نجاحا يذكر. ويمثل الأداء الاقتصادي الجيد للاتحاد الأوروبي متغيرا ثالثا وهاما في دعم ثقة الكثيرين به، خاصة وأن معدل نمو الاقتصاد الأوروبي كان أسرع من نمو الاقتصاد الأميركي في السنتين الأخيرتين. ومع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ومواقفه المعروفة تجاه الاتحاد الأوروبي، شعر الكثير من الأوربيين بأهمية تماسكهم نظرا لأن الحليف الأميركي ربما لا يمكن الاعتماد عليه بالصورة التي يريدها الكثيرون في أوروبا. وعلى النقيض من المتغيرات الإيجابية التي شهدها الاتحاد الأوروبي في العام الأخير، والرغبة الواضحة في الحفاظ على مشروع الوحدة الأوروبية، تبدو بريطانيا بلا رؤية واضحة تجاه مستقبل علاقتها مع أوروبا، باستثناء أنها ستغادر الاتحاد رسميا يوم 29 مارس 2019. ولا تزال غير مفهومة حتى الآن طبيعة “الشراكة العميقة والخاصة” التي تريد ماي الاحتفاظ بها مع أوروبا، ومن غير الواضح أيضا البدائل التي يمكن لبريطانيا أن تعتمد عليها إذا خرجت من السوق الموحدة التي تمثل أكبر شريك تجاري لبريطانيا. وفي المقابل يبدو وزير الخزانة البريطاني، فيليب هاموند، أكثر حرصا على وجود بريطانيا في السوق الموحدة، وسبق أن حذر من مخاطر الخروج من السوق على حركة الاستثمار في بريطانيا نظرا لعدم وضوح الرؤية حول مستقبل علاقة بريطانيا بالسوق. وكانت دراسة لاتحاد الصناعات البريطاني أوضحت أن 42 بالمئة من الشركات البريطانية ترى أن خروجها من السوق سيلحق أضرارا بها. وعلى النقيض من غياب الرؤية لدى حكومة تيريزا ماي، قدم جان كلود يانكر، رئيس المفوضية الأوروبية، رؤية واضحة لمستقبل الاتحاد الأوروبي تتضمن أن يكون له رئيس واحد بعد دمج منصبي رئيس المفوضية ورئيس المجلس الأوروبي وأن يكون له وزير مالية وأن يتم التوسع في منطقة اليورو وأن يتم التوصل إلى اتفاقات شراكة تجارية مع دول هامة مثل أستراليا ودول أميركا اللاتينية بشكل يشبه ما تم التوصل إليه مع كندا وأستراليا. ودعا يانكر إلى التوسع في اتفاقية شنغن التي تضمن حرية الحركة بلا تأشيرة بين الدول الأعضاء بها لتشمل رومانيا وبلغاريا. وأكد المساوة بين كافة مواطني الاتحاد في مختلف الحقوق، ومنها حق الانتقال والعمل في مختلف دول الاتحاد. كما قال إنه سيتم فرض حماية للأصول الأوروبية الاستراتيجية من محاولة تملكها من جانب الصين. وإجمالا يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي تجاوز في المرحلة الحالية مخاطر وصول اليمين الشعبوي إلى الحكم واحتوى أزمة المهاجرين وتمكن من تحقيق نمو اقتصادي جيد وهناك إصرار من جانب الدولتين القائدتين فيه، ألمانيا وفرنسا، على ألا يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد إلى انهياره وفشل مشروع الوحدة الأوروبية. ماكرون وميركل يصران على ألا تندم أوروبا على خروج بريطانيا، أما تيريزا ماي فلم تقدم لمواطنيها بعد ما يبعد عنهم مخاوف الندم على خروج بلادهم من السوق الأوروبية، أكبر تجمع اقتصادي في العالم، دون أن يكون هناك أتفاق واضح للعلاقة مع هذه السوق، أو اتفاقات بديلة لعلاقات تجارية مع أسواق أخرى. كاتب مصريمحمود القصاص
مشاركة :