تساؤلات كثيرة تبرز عن قدرة ترامب على دعم حليفته ماي في طلب الطلاق من أوروبا، وقدرة بريطانيا على تعويض السوق الأوروبية بأسواق أخرى، مثل السوق الأميركية، وقدرة ترامب وماي على إعادة عهد ريغان وتاتشر. العربمحمود القصاص [نُشرفي2017/01/24، العدد: 10522، ص(8)] “إذا كان على بريطانيا الاختيار بين أوروبا وبين البحار المفتوحة، فسيكون اختيارها دائما هو الثاني”، هذا ما قاله الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل في لقاء جمعه مع الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول عام 1946 بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. حينها حث تشرشل زعماء أوروبا، خاصة ألمانيا وفرنسا، على تجاوز ما سببته الحرب من خلافات وأزمات، والعمل معا لإعادة بناء أوروبا. وكان تشرشل، كغيره من الزعماء البريطانيين، حريصا على أن يكون لبلاده دور مؤثر في سياسات القارة الأوروبية، لكنه في ذات الوقت كان حريصا على دور أوسع لبريطانيا يتجاوز حدود أوروبا، وبشكل خاص حريص على علاقة بريطانيا مع مستعمراتها السابقة في دول الكومنولث، وعلاقاتها مع أميركا الشمالية وأستراليا. ولعل رؤية تشرشل توضح جذور رؤية الكثير من السياسيين في حزب المحافظين البريطاني لعلاقة بلادهم مع أوروبا، وهو ما تجلى بوضوح في عهد رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت تاتشر، التي تزعمت حزب المحافظين لفترة طويلة، واشتهرت بمواقفها المتشددة تجاه مشروع الوحدة الأوروبية، ورفضها توسيع صلاحيات المؤسسات الأوروبية، مثل المفوضية الأوروبية والبرلمان الأوروبي، بشكل ينتقص من سيادة بريطانيا. وفي ذات الوقت، اشتهرت تاتشر بعلاقتها الخاصة بالرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، وقدرتها على التنسيق مع إدارته في الكثير من الملفات الدولية. وبشكل عام، كانت تاتشر تسعى إلى تقييد مشروعات الوحدة الأوروبية في الوقت الذي كانت تسعى فيه إلى توسيع نطاق المشاركة والتعاون مع الولايات المتحدة الأميركية. ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه ولكن بزعامات جديدة. هذه المرة تيريزا ماي هي زعيمة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء الحالية في بريطانيا، ودونالد ترامب هو رئيس الولايات المتحدة الذي ينتمي إلى تيار يميني متشدد، ويرى في ريغان مثلا أعلى له. ومرة أخرى تبدو علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي حاضرة بقوة بعد أن أعلنت ماي أن بلادها ربما تخرج من السوق الأوروبية الموحدة. وأوضحت أن بريطانيا في وضع يمكنها من عقد اتفاقات تجارية مع دول خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تمثل أكبر اقتصاد في العالم. ونقلت ماي عن ترامب قوله إن بريطانيا “ليست في نهاية الصف” بالنسبة إلى الدول التي تسعى لعقد اتفاقيات تجارية مع واشنطن، كما سبق وقال باراك أوباما، بل في “مقدمة هذا الصف”. على الجانب الآخر من الأطلنطي يبدو ترامب متحمسا لكل ما يعرقل مشروعات الوحدة الأوروبية ويساهم في القضاء عليها. فقد وصف ترامب في حوار مع صحيفة “التايمز” البريطانية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بأنه “أمر عظيم”، وتوقع أن تنتهج المزيد من الدول الأوروبية نفس النهج وتغادر الاتحاد الأوروبي. كما وصف ترامب حلف “الناتو” بأنه “عفا عليه الزمن”، وانتقد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بسبب سياستها المتسامحة مع اللاجئين. وعلى الرغم من حماس تيريزا ماي لعلاقة خاصة مع إدارة ترامب من جانب، وحماس ترامب لتفكيك الاتحاد الأوروبي من جانب آخر، تبقى حقائق هامة، وهي أن الظروف تغيرت كثيرا عما كانت عليه في عهد تاتشر وريغان، وأن علاقة بريطانيا بالسوق الأوروبية تطورت كثيرا عما كانت عليه عند انضمامها لهذه السوق في عهد رئيس الوزراء المحافظ إدوارد هيث عام 1973. تستقبل السوق الأوروبية الموحدة في الوقت الحالي نحو 45 بالمئة من الصادرات البريطانية من السلع والخدمات، بما في ذلك الخدمات المالية التي تحتل وزنا بالغ الأهمية في الاقتصاد البريطاني. كما أن هذه السوق هي أكبر تجمع اقتصادي في العالم، علاوة على أنها تقع بالقرب من الجزر البريطانية، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيض تكاليف الشحن والنقل وتسهيل حركة العمل والانتقال بين بريطانيا وأوروبا، وهذه مزايا تجارية لا تتوفر في الأسواق البعيدة عن بريطانيا، في الولايات المتحدة أو الصين أو الهند أو غيرها. هذا بالإضافة إلى المزايا الاستثمارية، إذ أن من يقيم مصنعا في أي دولة من الدول الأعضاء في السوق الأوروبية يستطيع تصدير إنتاج هذا المصنع لكل أسواقها بلا قيود، وعلى سبيل المثال تستطيع شركات إنتاج السيارات اليابانية أن تستثمر في بريطانيا وتضمن تصدير إنتاجها لأسواق أوروبا وهي ميزة ستفقدها بريطانيا في حال خروجها من السوق الأوروبية. ومؤخرا أعلنت بنوك أوروبية وأميركية عن خطط لنقل خدماتها من لندن إلى مدن أوروبية أخرى إذا خرجت بريطانيا من السوق الموحدة نظرا لأن لندن لن تكون في وضع يمكنها من خدمة مختلف الزبائن الأوروبيين. يدرك المسؤولون البريطانيون أهمية السوق الأوروبية، ويبحثون عن صيغة تحفظ لبريطانيا حرية الدخول لهذه السوق. لكن المشكلة أن السوق الأوروبية تضمن حرية انتقال السلع والخدمات، كما تضمن حرية انتقال وعمل الأفراد وهو ما ترفضه بريطانيا. إذ كان رفض انتقال العمالة الأوروبية بلا قيود هو أحد أهم أسباب التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي المقابل يصر الاتحاد الأوروبي على رفض استفادة بريطانيا من مزايا السوق الأوروبية دون أن تتحمل أعباء عضويتها، ومنها منح كل مواطني الدول الأعضاء بالسوق الأوروبية حرية العمل والانتقال بلا قيود. وأخيرا، لم تجد تيريزا ماي مفرا من إعلان أن بلادها ربما تغادر السوق الأوروبية الموحدة، وستبحث عن اتفاق مع الاتحاد الأوروبي يحقق مصالح بريطانيا التجارية، الأمر الذي يعني أن بريطانيا في طريقها للطلاق التام مع أوروبا. من الواضح أن وجود إدارة أميركية جديدة بقيادة ترامب يشجع حزب المحافظين على السير في هذا الطريق. ومن الواضح حرص تيريزا ماي على إعادة العلاقة الخاصة بين لندن وواشنطن إلى ما كانت عليه في عهد ريغان وتاتشر، وستكون ماي أول زعيمة دولة يستقبلها ترامب الجمعة 27 يناير 2017. ولكن في ذات الوقت، أكد ترامب في الخطاب الذي ألقاه يوم تنصيبه رئيسا في 20 يناير على مبدأ “أميركا أولا”، وأنه سيسعى لعودة المصانع التي انتقلت إلى دول أخرى لتعمل مجددا في الأراضي الأميركية، وسيعمل على خلق المزيد من الوظائف للعمال الأميركيين. وأمام أهمية السوق الأوروبية لبريطانيا من جانب، ووعود ترامب بالتركيز على السوق الأميركية من جانب آخر، تبرز تساؤلات كثيرة عن قدرة ترامب على دعم حليفته ماي في طلب الطلاق من أوروبا، وقدرة بريطانيا على تعويض السوق الأوروبية بأسواق أخرى، مثل السوق الأميركية، وقدرة ترامب وماي على إعادة عهد ريغان وتاتشر. وتبقى المشكلة أن الجغرافيا قرّبت بريطانيا من أوروبا وأبعدتها عن الولايات المتحدة، وهو واقع لا يقبله الكثير من المحافظين في بريطانيا. كاتب مصري مقيم في لندن محمود القصاص :: مقالات أخرى لـ محمود القصاص هل يساعد ترامب حليفته ماي في طلب الطلاق من أوروبا , 2017/01/24 ثورة العمال البيض في بريطانيا وأميركا: العالم يعود إلى عصر الانغلاق, 2016/11/24 أوروبا لا تحب المهاجرين لكنها تحتاج إليهم , 2016/10/25 مصر محاصرة بين ضغوط صندوق النقد وضغوط الشارع, 2016/09/23 هل يكفي قرض صندوق النقد لوقف تراجع الجنيه المصري, 2016/07/30 أرشيف الكاتب
مشاركة :