معرض فني يتلاعب بقوانين الكون ليغير إدراكنا للعالم بقلم: عمار المأمون

  • 9/24/2017
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

مجموعة الصور المجردة في معرض الطريقة التي تتصرف بها الأشياء” تحاول التركيز على قطع الحديد عوضاً عن الأحصنة بوصفها مجازات عن الهموم ربما أو الحروب أو التهميش.العرب عمار المأمون [نُشر في 2017/09/24، العدد: 10761، ص(14)]التعبير عما بعد الحداثة يفجر طاقة جديدة في الفن صدر عام 1987 فيلم “الطريقة التي تعمل بها الأشياء” للسويسريين بيتر فيتشلي ودافيد فايس، الشريط الممتد على 30 دقيقة يبدو باستخدام المونتاج كأنه لقطة واحدة لكاميرا تتبع عمل تجهيز مكوّن من مجموعة من الآلات والأدوات البدائية واليوميّة المرتبطة مع بعضها البعض بأسلوب أشِبه بلعبة الدومينو، فكل “فعل” ينتج عنه آخر، وهكذا دواليك، يلتقط الفيلم عمل التجهيز الممتد لما يقارب الـ100، مبيناً كيفية عمل الأشياء، خالقاً نوعاً من التشويق والإثارة لدى المشاهد، الذي يبقى مشدودا لما سيحدث لاحقاً سواء كان سقوطاً أو إحراقاً أو غرقاً، حاز الفيلم عام 1988 على العديد من الجوائز في المهرجانات الدوليّة كسيدني وسان فرانسيسكو وبرلين وهونغ كونغ، ومازال إلى الآن ذا صدى عالميّ وتأثير خلّاب. احتفالاً بالذكرى الثلاثين للفيلم السابق نظمت مؤسسة خوان ميرو في برشلونة معرضاً بعنوان “الطريقة التي تتصرف بها الأشياء” في محاولة لالتقاط أجواء الفيلم التي تعكس التناقض بين ابتذال “الأشياء” البسيطة ودقة قوانين الفيزياء والكيمياء، وفي المعرض الحالي نرى التغيّرات التي طرأت على عالمنا إثر الثورة التكنولوجية التي غيرت مفهومنا عن أنفسنا وما حولنا من “أشياء”. يتألف المعرض من ثلاثة أعمال تجهيز، الأول بعنوان “جبل، سهل، جبل” لكل من دانيال جاكوبي ويو أراكي، والثاني بعنوان “خطوة أقرب” لسيرافين ألفاريز، والثالث بعنوان “تسريبات” لسيسيل. ب. إفنس، التجهيزات الثلاثة تعكس تغير علاقة الفرد مع محيطه وانزياح الإنسان عن مركز العالم وتداعي قوانين الفيزياء في مقاربة جديدة للتجهيز الذي يحويه الفيلم السابق. يحضر في أعمال التجهيز الإنساني واللاإنساني الرموز والأيقونات، الأصوات والمشاعر التي تتصل كلها بصورة لا تبدو سببيّة أو استنتاجيّة، بعكس التجهيز المبنيّ بحذر في الفيلم، وذلك في محاولة لإعادة تشكيل التساؤلات حول مفهوم “الشيء” وانهيار صورته التقليديّة، إلى جانب انزياح مكانة الإنسان الذي كان مركز الأشياء التي تدور من حوله، فأعمال التجهيز تنتقد المفاهيم المثاليّة وتتجاوز الثنائيات التي وضعتها المركزيّة الإنسانويّة. كيف نحرك جبلا من حديد في العمل الأول نحن لا نرى عمل تجهيز بل فيلماً على شاشة إسقاط، وفيه نشاهد عجوزاً يحكي عن صعوبة جرّ جبل وتحريكه من مكانه، لتتالى بعدها صور احتفالية ومجموعة من الأشخاص الذين يشاهدون شاشات مليئة بالمعلومات المشفّرة، لننتقل بعدها لمشاهدة مقاطع من رياضة غريبة نوعاً ما، موجودة شمالي اليابان التي تحوي الحلبة الوحيدة في العالم لممارستها، وهي مسابقة بين عشرة أحصنة كلّ منها يجرّ قطعة معدنيّة كبيرة، الهدف منها ليس السرعة بل القوة والاحتمال للوصول إلى خط النهاية. فمجموعة الصور المجردة هذه تحاول أن ترسم معالم هذه الرياضة ودلالاتها الاجتماعية والسياسية، والتركيز على قطع الحديد عوضاً عن الأحصنة بوصفها مجازات عن الهموم ربما أو الحروب أو التهميش.في الفن ما بعد الحداثي تتغير الأوزان والأشكال والدلالات وزن الخيال في عمل التجهيز الثاني يستمد ألفاريز “أغراضه” من الخيال العلمي وأبطال الكرتون ويبني منها مجسّماً ضخماً، لنرى أغراضا تنتمي لعوالم الخيال العلمي مكوّمة كلها ضمن كتلة واحدة بصورة عشوائيّة أشبه بلحظة ما قبل الانفجار الكبير، حيث تتجمع الكتل في مكان واحد لتنفلت بعدها متناثرة في كل مكان، إلا أن ألفاريز وكأنه ضغط زر “إيقاف” في لعبة ما، مثبتاً لحظة ما قبل الانفجار، لنرى أنفسنا ندور حول هذه الكتلة ونتلمّسها ونستكشفها لنقف أمام أبطالنا المفضلين والشخصيات الكرتونيّة التي عرفناها معلقة ومتلاصقة، حيث تتخلخل سياقاتها وتتحول إلى كتلة أو “غرَض” هائل لا مرجعية له إلا الخيال، أغراض لا تتمركز حول البشريّ وهيمنته بل نراه أمامها مذهولاً لو أراد لتمكن من وزنها ومعرفة أبعادها الفيزيائيّة، ما يدفعنا لنطرح سؤالاً كيف سيكون شكل الخيال لو كان حاضراً أمامنا كـ”شيء”؟ تسريبات عاطفية في التجهيز الثالث والأخير نرى أنفسنا أمام فضاءين، الأول يحوي خمس شاشات عموديّة والثاني خمسا أفقيّة، وفي العرض نشاهد أداء قدمته إيفنس العام الماضي، وفيه تستخدم عوضاً عن الكاتب حاسوباً ذا ذكاء اصطناعي يحوي شاشات تتسرب منها معلومات/عواطف، ويؤدي هذه “الأوامر” ثلاثة روبوتات ونافورة وجوقة من ثلاث ممثلين، وخلال هذا التجهيز تستكشف إيفنس طريقة بناء الحبكة ودقة تنفيذ الأوامر التي يرسلها الحاسوب في محاولة لـمـشابهة دقـة الآلات الـتي يـحويها التـجهـيز المـنجز عام 1987، وهـشاشة الأداء بأكـمله الذي يمكن أن ينهار إثر تسريب خاطئ أو التباس في تنفيذ الأوامر، فالعمل يدفعنا لطرح الأسئلة عن أنفسنا وعلاقتنا مع الآلات والمعلومات التي نتلقّاها من الشاشات وكيف تؤثر على سلوكنا وردود أفعالنا. ما يجعل أعمال التجهيز الثلاثة تشكل بنية واحدة هو موقفها من “الأشياء”، وبصورة أدق كيف اكتسب بعضها حضوراً مختلفاً عن إدراكنا لها، فهي تتصرف وتنمو وتتفاعل تبعاً لآلات خارجة عن إرادتنا أشبه بتلك التي نراها في الفيلم الأصلي. فالسبب والنتيجة لم يعد أصلهما الفعل الإنساني ولنكون مشاهدين فقط في بعض الأحيان ونتتبع بحماس وشوق كيف سينتهي الأمر، وهو الحماس ذاته الذي يتملكنا حين ننتظر نتيجة لعبة شطرنج بين آلة وإنسان، فهل ستتمكن الآلة أو الحواسيب شديدة التطور والتعقيد من الانتصار على البشري وزعزعة عجرفته كونه ذا “الذكاء” المنتج للحضارة. هذه التساؤلات قد تبدو ساذجة أو شديدة التجريد لكنها تستحق الطرح خصوصا أننا في عالم لم يعد فيه للحقيقة معنى، ما يكفي فقط أن تكون متماسكة ولو بهشاشة كالآلات والأغراض اليومية التي “تعمل” و”تتصرف” في فيلم فيتشلي وفايس. كاتب من سوريا

مشاركة :