الفكر العربي الإسلامي بقي مسجونا في إشكالية الأصالة والمعاصرة منذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم وهي إشكالية عقيمة تدور حول كيفية الجمع بين ما لا يأتلف ولا يجتمع.العرب حميد زناز [نُشر في 2017/09/29، العدد: 10766، ص(13)]هل يمكن للسيلفي أن يكون سلفيا ما جدوى اقتناء وسائل الاتصال الحديثة كالإنترنت إذا بقينا في قطيعة علمية وثقافية وحقوقية مع بقية الإنسانية؟ تكمن مأساتنا في عدم تجاوزنا لذلك الخطاب الإسلامي المحلق فوق الواقع. والذي يريد خطف ثمار الحداثة ويرفض في الآن نفسه الشروط الأساسية لتحققها ومنطقها العام. في بلداننا سلفيون وإخوان وكثير من رافعي قميص الأصالة يريدون أن نبقى طول الدهر من المشترين لكل شيء لأن الشراء، وتماشيا مع أيديولوجيتهم المتقوقعة، هو الأمر الوحيد الذي لا يكلف شيئا. وقد خلق هذا الوهم دورانا حضاريا في الفراغ نتج عنه وضعا انفصاميا يمكن لمسه في مختلف ميادين حياتنا، إذ تتعايش بيننا، وبشكل مصطنع، أحكام مسبقة متوارثة منذ أجيال مع آخر منجزات التكنولوجيا الحديثة وهو ما يعطي تركيبة ذهنية مرتبكة تشبه القنبلة الموقوتة، إذ كيف يمكن الانبهار بالآلات الميكانيكية والإلكترونية ونكفر بمنهج العلم الموصل إليها؟ ولئن كان لا يمكن اتهام المثقفين وحدهم في ما آلت إليه الأوضاع من سوء وضبابية في بلداننا فهم يتحملون قسطا كبيرا من المسؤولية لأنهم لم يعملوا بما فيه الكفاية لتنوير الناس بل ضللتهم الأغلبية بمقولة “الأصالة والمعاصرة” والتي تعني في نهاية الأمر التوهم بسهولة تبنّي حضارة الغرب، والنفور المرضي من قيم نفس هذا الغرب، فكأن الحداثة حانوت نتبضع منه كيفما شئنا. بدعوى عدم الذوبان في الحضارة الغربية، رسّخ رافعو شعار “الأصالة والمعاصرة” من مثقفي الإخوان وغيرهم أولوية “الحداثة الاستهلاكية” ومعاداة الحداثة العقلانية في أذهان مواطنيهم، وبات أغلبهم مبهورا بمنتجات مفصولة عن منطق اشتغالها، فأصبح ينظر إليها كأنها من عالم السحر كالسجادة الآتية من الصين، والتي تدلنا على وجهة القبلة، والمنبه الذي يرفع الأذان خمس مرات في اليوم وهو مستورد من كوريا، وغيرها من الأشياء التي تصنع خصيصا لدغدغة مشاعرنا الدينية بغية إفراغ جيوبنا. بسبب ضغط الكهنوت الإسلامي خصوصا، اكتفى المثقفون العرب بمحاولة إيجاد توافق أو جمع ما بين الشريعة والعقل في حين كان ينبغي الفصل بينهما وتجاوز أسطوانة “الأصالة والمعاصرة” المشروخة التي طالما أنهك بها الإخوان والمتأسلمون عقول الشباب جيلا بعد جيل. واليوم وأمام الفشل الماثل أمامنا والخطر المحدق بنا، لم يتبيّن بوضوح عجز هذا الكوكتيل المسمى “أصالة ومعاصرة” من أن يكون مشروعا حضاريا فحسب بل ظهر جليا أنه مجرد تشكّل كاذب وتضليل لا يُجنى منه سوى المزيد من الهدر للوقت والجهد والمال.هل التوفيق بين تراثنا والعصر يتلخص في تجاور الموبايل والتميمة في جيوبنا أو أن نتلقى الرقية الشرعية عبر الإنترنت هل التوفيق بين تراثنا والعصر يتلخص في تجاور الموبايل والتميمة في جيوبنا وهل هو تأصيل وتحديث أن نتلقى الرقية الشرعية عبر الإنترنت. بقي الفكر العربي الإسلامي مسجونا في إشكالية “الأصالة والمعاصرة” منذ بداية القرن التاسع عشر إلى اليوم وهي إشكالية عقيمة تدور حول كيفية الجمع بين ما لا يأتلف ولا يجتمع: الماضي والحاضر، العقل والنقل، الحداثة والأصالة وغيرها. وكذا البحث عن الطرق الناجعة لأخذ ما ينفع من الغرب وترك ما يضرّ، وبكلمة صريحة هو السعي للتمتع بمباهج الحداثة مجانا أي دون أن يمس التغيير تقاليدنا ونظرتنا إلى الحياة مثلما حدث مع كل الشعوب المتقدمة المعاصرة لنا. وهو السبب الذي تركنا نتخبط في شركِ هذه الإشكالية المزمنة المسكونة بوهم هوية خالدة. يعود كل هذا الارتباك إلى معاناة المثقفين في ديارنا من ذلك العسر النظري المزمن في مقاربة الحرية مقاربة عصرية وتوهمهم الوصول إلى الحداثة انطلاقا من التراث الديني. فهم لا يملكون الشجاعة الأدبية ولا يشعرون بواجب إعادة النظر في الموروث ذاته وهو شرط ضروري في تغيير الذهنيات ودفعها نحو الأفضل، نحو الفصل بين الحياة وما بعد الحياة. لقد تحول التفكير، تحت ضغط الفقه والقوى التي تحمله إلى مجرد تبرير لما هو كائن وهكذا تحول مسك العصا من الوسط إلى رياضة عربية بامتياز لا يمكن أن تنجب حسما فكريا أو ثقافيا فحسب بل ستديم إقامتنا حائرين خارج عصرنا. وعلة ذلك أن معظم مثقفي بلداننا اعتقدوا وبعضهم أجبروا على الاعتقاد بإمكانية أخذ العلم والتقنيات من الغرب دون الاكتراث بفلسفة الحداثة التي أنتجت هذا العلم وتقنياته. هل هو اسم على مسمى ذلك المنتج للنصوص الذي أطلق عليه نعت “مثقف” في البلاد العربية والإسلامية؟ المثقف هو من يفكر مستقلا عن العادات الذهنية المسيطرة على ثقافته وبديهياتها وهو من يعيد النظر في الموروثات الجامدة ويحاول خلق رموز ثقافية جديدة. ليس مثقفا في شيء من يتحاشى إغضاب العوام ولا من يتجنب طرح الأسئلة التي لا يستسيغها الرأي العام. فهل يخدم “المثقفون” الجماهير عندما يتنازلون لإرضائها؟ وهل خدم التنازل والجبن الأخلاقي قضية التقدم في يوم من الأيام؟ ليس من مهمة المثقف أن يعقلن الوضع القائم وإنما المساهمة في إخراج ثقافته من مرحلة سيكولوجية منغلقة إلى مرحلة جديدة أكثر انفتاحا على الإنسان والعالم. التفكير ليس دورانا حول الموجود الموروث وإنما البحث عن طرق جديدة تؤسس لمعنى آخر يناسب العصر. التفكير هو خروج ما عن الذات ولذلك لا يمكن أن يقدم المثقف شيئا إذا لم يتحرر من طغيان الجاذبية الثقافية المحلية وإذا لم يكن قادرا على إحداث قطيعة معرفية كفيلة بدفع الإنسان العربي إلى التصالح مع عصره. حميد زناز
مشاركة :