انعطافة دولية نحو القطب الشمالي: طريق تجارة جديد عبر الجليدظل القطب الشمالي، لسنوات طويلة منطقة نائية ومتجمدة لا حياة فيها ولا يزورها إلا العلماء والباحثون، لكن ونتيجة للتغيرات المناخية والاحتباس الحراري الذي يهدد بذوبان جليد هذه المنطقة، مما يعني إمكانية شق طرق ملاحية جديدة، بدأت الدول الكبرى تخطط وتبحث عن كيفية شق طريقها نحو هذه المنطقة الشمالية للكرة الأرضية التي لا تخضع ملكيتها لأي دولة إلى حد اليوم.العرب محمد عابد [نُشر في 2017/09/30، العدد: 10767، ص(7)]التفوق في القطب الشمالي لن يكون سهلا إسطنبول - كشف علماء بيئة مؤخرا، أن معدلات سُمك طبقة الجليد في المحيط المتجمد الشمالي شهدت انخفاضا غير مسبوق هذا العام بالرغم من المساعي الدولية إلى احتواء أزمة الانحباس الحراري، وهو خبر وإن يقلق علماء البيئة والمناخ فإنه يفرح الحكومات والدول والشركات الكبرى العاملة في مجال الطاقة. وفي تقرير لها، نقلا عن عدة أبحاث، أشارت مجلة مونغاباي العلمية البيئية، أن معدل سُمك الجليد بالقطب الشمالي تراجع بشكل غير مسبوق، في الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، مقارنة بالفترة ذاتها من الأعوام السابقة، بسبب ارتفاع درجة حرارة مياه المحيط أسفل طبقة الجليد. ولفت التقرير إلى أن سمك تلك الطبقة، في الأشهر الخمسة الأخيرة من كل عام، يكون عادة في أدنى مستوياته، إلا أنه قد لا يتجاوز هذا العام مترا واحدة، مقارنة بنحو مترين في الفترة ذاتها قبل 30 عاما، ما ينذر بتحوّل المحيط الشمالي إلى مياه دافئة تجول فيها ناقلات النفط والحاويات، ويُفقد الأرض عنصرا آخر في توازنها البيئي. وبالرغم من إظهار مختلف الدول، وخصوصا التي تسيطر على أجزاء من القطب الشمالي (روسيا وأميركا وكندا والدنمارك والنرويج وأيسلندا)، اهتماما (متفاوتا) بمسألة التلوث البيئي عموما، والنشاط الإنساني في القطب خصوصا، وتبادلها الاتهامات في هذا السياق، إلا أن الأطماع الاقتصادية والإستراتيجية في المنطقة تطغى على أي اعتبارات أخرى.المعضلة البيئية وامتداداتها الاقتصادية تشكل عنصر تجاذب كبير حول القطب الشمالي بين مختلف الأطراف المعنية طريق جديد تمكّنت روسيا، في أغسطس الماضي، من نقل شحنة غاز مسال من النرويج إلى كوريا الجنوبية، عبر المياه المتجمدة، على متن الناقلة العملاقة كريستوف دو مارجري، الأولى والوحيدة في العالم من نوعها، من حيث قدرتها على كسح الجليد دون الحاجة إلى معدّات إضافية، بسرعة وكفاءة عاليتين. ونقل تقرير لشبكة بي بي سي البريطانية، في 24 من ذلك الشهر، عن شركة سوفكومفلوت الحكومية الروسية، المصنّعة والمالكة للناقلة، أن الرحلة استغرقت 19 يوما، مقارنة بأكثر من 27 يوما عبر طريق قناة السويس التقليدي. يؤذن ذلك الإنجاز بدخول عدة أطراف في سباق لتصنيع ناقلات من ذلك الطراز، ولبسط النفوذ على ذلك الطريق، وإن كان أنصار البيئة يزعمون أنه لا يختصر الكثير من الوقت بحيث يستحق المغامرة باختراقه، وسط مخاطر تلوث المياه والجليد، إلا أنه يعدّ في المقابل طريقا بديلا مهما للطرق التقليدية. ويشعل هذا الطريق الجديد تنافس الدول المصدرة على الأسواق الكبرى، وخصوصا في قطاع الطاقة، فسوق الغاز بكوريا الجنوبية، مثلا، التي وصلتها شحنة منه عبر الطريق الجديد من النرويج، تسيطر عليه دولة قطر منذ سنوات، الأمر الذي قد يشهد تراجعا في السنوات المقبلة، علاوة على تأثيرات ذلك على أسعار الطاقة عالميا. أوروبيّا، يعدّ ذلك خبرا جيدا بالنسبة لدول شمال القارة، على حساب دول الجنوب، التي لطالما كانت مركزا مهما في التجارة بين أوروبا وبقية دول العالم، ما سيعمّق أزمات تلك الدول الاقتصادية، وخصوصا إيطاليا وإسبانيا. إلى جانب البعد التجاري فإن ظهور طريق جديد في الشمال يعدّ تحديّا جديدا لإستراتيجية احتواء الصين التي تنتهجها الولايات المتحدة، وعدد من حلفائها، منذ سنوات. وأطلقت بكين، عام 2013، إستراتيجية الحزام والطريق، سعيا لخلق شراكات إستراتيجية مع عدة دول لضمان وصول بضائعها إلى الأسواق الكبرى حول العالم، بالإضافة إلى عدة مشاريع موازية بالتعاون مع باكستان، للنفوذ إلى المحيط الهندي، بعيدا عن منطقة جنوب شرق آسيا، ومع روسيا، لإنشاء طريق بري مباشر إلى أوروبا. إلا أن تلك الطرق لا تعوّض طريق مضيق ملقا الواقع في جنوب شرق آسيا في قطاع الطاقة، فمنه تعبر 82 بالمئة من واردات الصين من النفط بحسب تقرير لمجلة فوربس عام 2016، فيما سيشكل طريق القطب بديلا معقولا، بحيث ينقل موارد الطاقة من روسيا والدول الإسكندنافية، إلا أن ذلك، في المقابل، سيعمّق من اعتمادية الصين على روسيا، اقتصاديا وإستراتيجيا.القطب الشمالي يحوي 90 مليار برميل من النفط، و17 ترليون قدم مكعب من الغاز صراع على ثروات القطب أشار تقرير أصدرته جامعة ستانفورد عام 2015، أن القطب الشمالي يحوي 90 مليار برميل من النفط، و17 ترليون قدم مكعب من الغاز، و44 مليار برميل من الغاز المسال، أي 16 بالمئة و30 بالمئة و26 بالمئة من احتياطات العالم من تلك المواد، على الترتيب. تشعل تلك الأرقام الصراع بين الدول لتوسيع سيطرتها في تلك المساحات القاحلة من الجليد، وما يترتب على ذلك من تحالفات وتحركات إستراتيجية، أبرزها دعوة موسكو للصين إلى الدخول في شراكة للاستثمار في ثروات المنطقة، سعيا منها لتعزيز موقفها في مواجهة أي تحالف غربي مضاد، يجمع الولايات المتحدة وكندا والنرويج والدنمارك وأيسلندا، وفق تقرير لوكالة رويترز للأنباء، عام 2013. ومع ذوبان الجليد، وتطور تقنيات النقل والتنقيب في ظروف القطب، سيشهد العالم تحولا إستراتيجيا مهما بانتقال قدر كبير من تركيز تلك القوى العظمى إلى ذلك الجزء من العالم. وبالمحصلة، فإن تلك المعضلة البيئية، وامتداداتها الاقتصادية، تشكل عنصر تجاذب كبير حول القطب الشمالي بين مختلف الأطراف المعنية. وقد توصل المجتمع الدولي لاتفاق تاريخي في باريس، عام 2016، لكبح جماح التلوث، والحد من ظاهرة الانحباس الحراري، التي تتسبب بارتفاع درجات الحرارة على الأرض، وخصوصا في القطبين، إلا أن ذلك ما يزال مثار أخذ ورد، خصوصا منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة في واشنطن، مطلع العام الجاري، وإعلانه الانسحاب من الاتفاقية، في يونيو الماضي. إلا أن مراقبين للشأن البيئي يرون أن الأهم بخصوص الحفاظ على القطب الشمالي، يتمثل في وضع حد لأنشطة التنقيب على الثروات، وعسكرته في إطار الصراع على السيادة فيه، علاوة على مساعي شق طرق تجارية عبره. ومنذ سنوات، استخدمت الأطراف التي تسيطر على مساحات في القطب ورقة البيئة في إطار ذلك الصراع، وبالرغم من ادعاء كل منها الاهتمام بالحفاظ على البيئة في المنطقة، إلا أن الأطماع الاقتصادية تطغى على أي اعتبار.
مشاركة :