قد يجد الزائر لمعرض «التطلع نحو الحاجة المستقبلية للمعرفة» في غاليري «تاون هاوس» في وسط القاهرة، صعوبة في تتبع الصوت المصاحب لأربعة أشرطة فيديو تكوّن العمل التجهيزي للفنان آش مونيز. فاتساع المساحة النسبي لا يمنع تداخل الأصوات، وبالتالي لا يجد الزائر أمامه سبيلاً سوى متابعة الترجمة الإنكليزية المصاحبة للعروض. عنوان المعرض المستمر حتى نهاية تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، مركّب ويشي بطبيعة العمل وما يحمله من إسقاط اجتماعي وسياسي في بعض جوانبه. وفي البيان المصاحب، ان المعرض «يعيد صَوغ الطقوس الأدائية لإنتاج الوثائق والمستندات الرسمية، ويوضح عبر نزع الطبقات وكشف معنى هذه الوثائق أن السلوك البشري (مِن حركة وكلام وأفعال) يندرج تحت آليات النظم البيروقراطية». وعلى هذا النحو يطالعنا الجزء الأول من العمل بإعلان لمصنع ورق يمهد لطبيعة الأجزاء التالية والمرتبطة بفكرة الوثيقة. ويضم الجزء الثاني لقطات متفرقة لرجل وامرأة تُعرض على شاشتين منفصلتين، وفي خلفيتهما صورة كبيرة ذات طبيعة رسمية لعدد من الأشخاص التُطقت كجزء من بروتوكول للتعاون بين مصر وإحدى الدول. تشرح المرأة في الفيديو (وهي تعرّف عن نفسها كمصورة فوتوغرافية تخصصت في التقاط الصور الرسمية من هذا النوع) كيف يتم ترتيب الأشخاص داخل المشهد، والصعاب التي قد تواجه المصورين عند الإعداد له. وتوضح كيف أن آليات إنتاج الصورة الرسمية تنطوي على كثير من التعقيدات والتفاصيل التي يجب أخذها في الاعتبار عند إنتاجها، كوضع الأشخاص في المشهد وترتيبهم وفق القواعد البروتوكولية المتعلقة بوظائفهم، مع مراعاة الفروق الأخرى المتصلة بطول القامة أو قصرها وغير ذلك. على الجانب الآخر، يشرح لنا الرجل وهو مصور فوتوغرافي أيضاً، آليات التقاط الصورة الشخصية التي تُرفق مع هويات المبعوثين والديبلوماسيين الأجانب، فعبر تعاونه مع إحدى القنصليات الأجنبية في القاهرة اكتسب الخبرة الكافية والقدرة على صوغ هذه الصور وفق الشروط التي تحتمها الضوابط الإجرائية لهذا النوع من الوثائق، كوضع الأشخاص، ولون الخلفية، والحرص على بعض التفاصيل. أما الجزء الثالث من المعرض فيضم مجموعة متفرقة من المشاهد التمثيلية شبه المرتجلة لمجموعة من الأشخاص الذين يتناقشون في شأن الطريقة الأنسب لخط سير إحدى وثائق التوريد التجارية. وتُعرض المشاهد معاً في لقطة واحدة مجتمعة. وتعكس المناقشات والمداولات القائمة بين الأشخاص في الفيديو التعقيدات الروتينية التي تنطوي عليها عملية توريد البضائع، وكيف يتكيف الأشخاص مع القيود الروتينية. ويجمع الحوار الدائر في الفيديو بين الجدية والطرافة أحياناً، في طريقة النقاش وصوغ الكلمات والجمل، كما أن زوايا التصوير لتلك المشاهد المجمّعة تعكس توتراً وقلقاً لا يتفقان مع طبيعة النقاش الدائر. الفيديو الرابع والأخير يحتوي على تحقيق أو استجواب عبثي مع فتاة تجلس في حالة توتر وانتظار. سرعان ما نكتشف من خلال هذا الاستجواب أن الفتاة ما هي إلا تجسيد لوثيقة رسمية تم توقيعها بين مصر والبنك الدولي من أجل الحصول على قرض. وتنطوي العلاقة المتوترة بين الفتاة وصوت الرجل المستجوب الذي يتوارى طوال مدة العرض على نوع من الارتباط القسري. فالفتاة التي لا يروقها هذا الاستجواب وتعلن امتعاضها أحياناً يمكنها بسهولة إنهاء الجلسة كأحد الخيارات المتاحة، لكنها تتحامل على نفسها مرغمة وتستمر في الإجابة عن التساؤلات التافهة للمستجوب طوال المشهد. يحاول مونيز في هذا المعرض تفكيك العلاقات الآلية التي تفرضها الوثائق الرسمية على الأشخاص من طريق تجسيدها، أو إعادة صوغ تلك العلاقات الناشئة عبر إخضاعها لقوالب وأنماط مختلفة عن سياقها الفعلي. آش مونيز فنان كندي متعدد الوسائط مقيم في القاهرة. يعمل في المقام الأول بين مجالات الفيديو والأداء والتجهيز. حصل على بكالوريوس الفنون الجميلة من جامعة أوكاد في تورونتو عام 2014، وشارك في برنامج «ماس إسكندرية» للدراسات المستقلة وإستوديو الفنانين عام 2016. وتسلط غالبية مشاريعه الأخيرة الضوء على دور الدولة ضمن سياسات النقل واللوجستيات والمواطَنة. عمل منسقاً مساعداً في متحف أمنوا في بكين، ومدير برنامج إقامات الأحياء المتنقلة في الدار البيضاء، وعرض أعماله في كثير من الغاليريات والمتاحف في بكين وشنغهاي وتورونتو والرباط، ويساهم بالكتابة في جريدة «مدى مصر» الإلكترونية.
مشاركة :