كنيسة القديس توماس في لايبزغ مكان يشهد على صلاة الموسيقي بألحانه بقلم: فاروق يوسف

  • 10/1/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

الكنيسة لم تكن لتكتسب أيّ نوع من الأهمية لو لم يكن باخ حيث يحجّ إليها الزائرون من كل أنحاء الأرض رغبة منهم في الإنصات إلى قطعة موسيقية.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/10/01، العدد: 10768، ص(10)]ليست حجارة بل أنغاما تركها باخ محلقة في الهواء لندن -“الموسيقي باخ خدم الرب أكثر من كل القديسين” هذا ما يقوله بعض رجال الدين المسيحي. يوهان سباستيان باخ هو المقصود بالتحديد. ذلك لأن عائلة باخ تضم عددا كبيرا من الموسيقيين. أبوه كان عازفا وابنه وحفيده هما من أشهر المؤلفين الكلاسيكيين. أغمض عينيك وسترى يمكنك أن تستمع إلى موسيقاه في الكثير من الكنائس. لا غرابة في ذلك. ما من موسيقيّ ينافسه في الإخلاص للموسيقى الكنسية. ولكنه إخلاص يرقى إلى أن يكون دينا جديدا مادته خفيفة كالعطر، عميقة مثل المحيطات. سيد عصر الباروك في الموسيقى مثلما كان الهولندي رامبرانت سيد ذلك العصر في الرسم. لذلك يمكن اعتبار باخ العنوان الأعلى للموسيقى عبر العصور. هناك جملة واحدة في كل مقطوعة من مقطوعاته لا تتكرر بالرغم من أنه لا يفارقها باعتبارها جذرا. إنه يقول الشيء نفسه لكن بكلمات عذبة مختلفة دائما. جملته تحضر جديدة كما لو أنه لم يقلها من قبل وهي التي قيلت مرات عديدة.شاهدتا قبري القديس والموسيقي تتنافسان على جذب الجمهور من نوعين مختلفين. الرجلان الراقدان تحت الأرض يدفعان إلى التفكير بنهايات سعيدة، لكن كل واحد منهما يبشر بتلك النهايات بطريقته. غير أن تمثال باخ الذي يقف خارج الكتيسة يحظى بنظرات الاعجاب أكثر من الكنيسة نفسها لقد ذهبت إلى كنيسته مثلما يفعل الكثيرون. أسميها كنيسته مثلما يسمّيها زوارها الذين لا يرون منها إلا السلم الذي يؤدي إلى أرغنه. هي كنيسته التي شيدها من العواصف وليست الحجارة إلاّ غلاف. لو لم يكن باخ ما كانت كنيسة القديس توماس في لايبزغ لتكتسب أيّ نوع من الأهمية. فما من كنيسة سواها في العالم يحجّ إليها الزائرون من كل أنحاء الأرض رغبة منهم في الإنصات إلى قطعة موسيقية. الموسيقى هناك تسقط بفراشاتها من السقف. كل الأشياء تكتسب أجنحة. ما أن تدخل حتى تسمع صوتا يقول لك “أغمض عينيك وسترى” الموسيقى تدفع بك إلى عالم أحلام لا يمكن أن يتسع له النوم. باخ يهبنا رقية تعيننا على تحدّي الألم أو على الأقل تحييده. إنه خبير في الصبر. الموسيقى تعلّم الصبر. أليس الصبر درسا دينيا؟ بسبب باخ يستذكر زوار كنيسة القديس توماس مقولة السيد المسيح “مملكتي ليست من هذا العالم” ذلك لأن كل شيء في ذلك المكان قابل للتحليق والغياب. القديس توماس وكنيسته ذات الطراز القوطي البديع هما اللذان جذباني إلى ذلك المكان أم هما باخ وأرغنه الذي جُدّد وفق المواصفات القديمة؟ ولكن لهذا المكان لمسة احتجاج لا تُنسى في تاريخ المسيحية أحدثت تحولا هائلا في التفكير الديني بأوروبا. مارتن لوثر القس المتمرد أعلن عن عصيانه هنا وانطلقت تعاليمه من هنا أيضا. حدث ذلك عام 1539. عصر بركام من الطبقات شاهدتا قبري القديس والموسيقي تتنافسان على جذب الجمهور من نوعين مختلفين. الرجلان الراقدان تحت الأرض يدفعان إلى التفكير بنهايات سعيدة، لكن كل واحد منهما يبشر بتلك النهايات بطريقته. غير أن تمثال باخ الذي يقف خارج الكنيسة يحظى بنظرات الإعجاب أكثر من الكنيسة نفسها. إنه الاستهلال الذي لا بد منه. قريبا من ذلك التمثال تقع مؤسسة أرشيف باخ. يا لها من مكتبة تصعد بسلالم تدوينها الموسيقي إلى السماء.كنيسة القديس توماس يعود تأسيسها إلى القرن الثالث عشر الميلادي لم تتعرض لما تعرضت له كنائس ألمانية كثيرة من دمار. لا ينافس أحد من الموسيقيين عبر التاريخ باخ في غزارة إنتاجه الموسيقي وعظمته. حياة كلّها موسيقى من طراز نادر. حياة خلاصتها موسيقى. ينافسه في ذلك المجال مايكل أنجيلو في النحت وبيكاسو في الرسم. الثلاثة أنتجوا من الأعمال الفنية ما لا يمكن أن تتسع له حياة واحدة. الألماني يوهان سباستيان باخ (1685-1750) عاش الجزء الأكثر خصبا من حياته منعّما برعاية هذه الكنيسة. ما بين عامي (1723-1750) وهو الزمن الذي قضاه عاملا في الكنيسة أنتج باخ أعظم أعماله مستلهما الروح الجديدة التي جلبتها البروتستانتية معها. التغيير الذي أحدثه باخ يومها في الموسيقى كان قاعدة لقيام عصر موسيقي جديد. عصر هو ركام من الطبقات، تتلاحق وجوهه المتعددة ولا يمكن الإمساك به عند واحدة من درجات سلّمه. كان باخ واحدا من أهم صناع عصر الباروك، العميق بفخامة لافتة والمزدهي بأناقة لغته النبيلة. كنّا حشدا تائها يتلفّت أفراده بحثا عن السلّم الذي يقود إلى أرغن باخ في الأعالي. لم يكن في نيتي الصعود فأنا أعرف أن الموسيقي الذي رأيت قبره لن يكون هناك. لكن ذلك لم يكن شعور الجميع من حولي. كان شبح باخ يغريهم بالصعود كما لو أنه يعدهم بمفاجأة العمر التي تستحق المغامرة. المفارقة تكمن في قلة عدد المصلين في ذلك المعبد. هناك شموع من أجل روح باخ. شيء يعيد الصلة قوية بين الفن والدين، يربط بينهما خيط خفيّ من السحر الذي يحيل إلى حياة غير مرئية يعيشها المرء في لحظة انخطاف، هي خلاصة حياة كاملة لا تمر إلا حين يجيء الموت. كما لو أن القلب ينظر يمارس باخ هناك سطوة لا يتوقعها أحد من موسيقي ميت. باخ نفسه سيتساءل أمام تلك السطوة “لمَ لم أطوّب قديسا؟”. في “برطلة” وهي قرية مسيحية تقع شمال العراق رأيت ذات مرة حشودا من الباكين وهم ينظرون إلى المكان الذي قيل إن السيدة العذراء قد ظهرت فيه بكنيسة القرية. كان جبرا إبراهيم جبرا يقف إلى جانبي وكنا ننظر إلى الجهة التي ينظر إليها أولئك المؤمنون. “هل رأيت شيئا لم أره؟” سألته. قال “أنت ترى بعينك وهم ينظرون بقلوبهم وهنا يكمن سر اللعبة”. شيء من هذا القبيل يحدث للمرء حين يزور كنيسة القديس توماس.الموسيقيون لا ينافس أحد منهم عبر التاريخ باخ في غزارة إنتاجه وعظمته. حياة كلها موسيقى من طراز نادر. حياة خلاصتها موسيقى الموسيقى هي التي مرت كنيسة القديس توماس التي يعود تأسيسها إلى القرن الثالث عشر الميلادي لم تتعرض لما تعرضت له كنائس ألمانية كثيرة من دمار بسبب ما شهدته المنطقة من حروب. لذلك ظلت هي الكنيسة الأهم في مقاطعة سكسونيا. يكفي أن عاصمة تلك المقاطعة دريسدن قد تعرضت للدمار الشامل في الحرب العالمية الثانية. ما من أثر للحروب هنا. غير أن عصف الموسيقى هو الذي غير مصير تلك الكنيسة فصارت مشهدا سياحيا أكثر مما هي دارا للعبادة. لو عرف رعاة الكنيسة يوم وافقوا على أن يكون باخ رئيسا للجوقة الكنسية بذلك المصير لما أقدموا على فعلتهم التي وضعت لايبزغ في أعلى سلّم المدن الألمانية جذبا للسائحين. يغادر المرء كنيسة القديس توماس ولا يغادرها في الوقت نفسه. زيارة باخ في صومعته حدث لا يُنسى. الكنيسة نفسها ليست الأكثر جمالا وفخامة وعلوّا مقارنة بالكنائس التي بنيت في عصرها. بل قد تكون الكنيسة الأكثر فقرا، ذلك لأن ثراءها لا ينبعث من تفاصيل عمارتها، لا من برجها ولا من أقواسها وأعمدتها ونوافذها ولا من أجراسها ولا من أبوابها ومصطباتها العتيقة. ثراؤها ينبعث من وهم أضفى عليها حضورا استثنائيا في تاريخ لا يمتّ لها بصلة هو تاريخ الموسيقى. هذا هو المأوى الذي شعر فيه واحد من أهم العباقرة عير التاريخ بالأمان والطمأنينة وهو ما دفع به إلى أن يردّ لها الجميل حين أطلقها مثل كوكب في فضاء الموسيقى. يغادر المرء ذلك المعبد كما لو أنه يغادر كوكبا ليس من عالمنا. وقفت أمام تمثال باخ كالغائب عن الوعي وكان في أعماقي قديس يقول “شكرا” للرجل الذي خدم الروح الإنسانية برقة وعمق وإخلاص وتفان كما لم يفعل أيّ رجل دين عبر التاريخ. أنا على يقين من أن كل الأقدام التي تركت خطواتها على سلالم كنيسة القديس توماس في طريقها إلى أرغنه كانت محمولة على أجنحة ذلك الشكر.

مشاركة :