إطروحةٌ عقلية تحليلية لوقائع تاريخية مثبته وقاطعة لا خلاف عليها، لكنّ قراءتها التي قد نختلف عليها. أتمنى أن تتسع لي صدوركم وعقولكم، ولا أشترط الاتفاق، لكني أشترط الفصل بين المشاعر والوقائع، والعلم بأن طبيعة التجربة الإسلامية ليست ذات وجه واحد، وعلينا التخلي عن النظرة الأحادية للخبرة البشرية. بداية لماذا يُعد المحرم مبتدأً؟ المحرم: شهرٌ يبدأ به التقويم الهجري للمسلمين، الذي أنشأه الخليفة الراشدي (عمر بن الخطاب - رضي الله عنه)، وهو ميقات قمري، أمر الله تعالى باتباعه في القرآن الكريم. {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}. حيث استخدم العرب التقويم قبل دخول الإسلام بقرون، ولكن كانت أسماء التقاويم وعدد شهورها وأيامها مختلف من قبيلة إلى أخرى، إلى أن اُعتمد التقويم كتقويم للمسلمين، لتكون الهجرة محددة التاريخ للمسلمين والعالم كله. فكان المحرم مُبتدأٌ للعزم على الهجرة لا على الهجرة نفسها التي تمت في ربيع الأول، لذا اختاره الصحابة ليكون بداية التقويم تعظيماً لأكبر الملاحم الإسلامية. لذا يعتبر المحرم بداية حقيقية تجعل للزمن قيمةً معلومةً، وهو في طبيعته ليس محرماً فيه القتال فحسب بل شهراً معظماً يحمل أحداثاً جللا وعِظاماً في التاريخ الإنساني عامةً، والتاريخ الإسلامي خاصةً، بل يحمل مفارقاتِ غريبة تثير علاماتِ استفهامٍ كبيرة، وتفرض أسئلةً جدلية. ففي هذا الشهر على الصعيد الإنساني، رُفع النبي إدريس عليه السلام إلى السماء، خروج النبي يونس من بطن الحوت، ولادة النبيين يحيى، وموسى عليهما السلام، وفيه أيضاً نجى الله موسى وقومه من فرعون، كما شهد ولادة السيدة مريم العذراء، وفيه استوت سفينة نوح عليه السلام على الجوري. أحداث عظيمة ومهمة في التاريخ الإنساني وكلها تبدو مشرقةً ومُنجيةً تتلاءم مع طبيعة هذا الشهر وقداسته وتبرر لمَ حُرِم فيه القتال؟ ولمَ التزمت بهذا التحريم العرب قبل الإسلام. أما على الصعيد الإسلامي فيحمل هذا الشهر أحداثاً مفصليةً وحاسمةً منها تحويل قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة ٨ هـ، ومنها أيضاً فتح حصن خيبر وهزيمة المسلمين لليهود ٧هـ . فتمضي هذه الأحداث، وتلك ويبقى حدثاً يؤثر في الطبيعة الإسلامية على عمومها، ويحقق تحولاتِ سياسية واستراتيجية عالمية، هو لحظة تاريخية تصاعدت أحداثها ومأساتها معاً، وهو مقتل الإمام الحسين عليه السلام ليصبح سِبْط رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً للحق وثائراً على الظلم وخالداً على الزمن. ويُشكل مقتله معطفاً في التاريخ الاسلامي يكشف غطاء الشرعية عمّا يسمى الخلافة الإسلامية، ولست هنا في معرض التشيع ولكني في معرض الاستقراء بعيداً عن مخلفات الفكر الآسن والخيال الفقير، خاصةً وأن ظروف الحدث تصلح لكل زمان ومكان، بل دليل على فهم العقلية العربية وأهوائها وتقلباتها، والظلم والغبن فيها وكارثيتها أحياناً كثيرة. فالخبر الحسيني هنا أكبر من النواح واللطم، هو قضية مازالت قيد البحث ولم يفصل فيها بعد، هي حكاية لم ترو كما يجب أن تروى. عاشوراء هي حدث يجب الوقوف عنده وتحليله، فكيف تكون خبرا للمحرم؟ الذي أولاً حُرِم فيه القتال. {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}. وثانياً بقتل سِبْط رسول الله يبدو المشهد قاتماً، تظهر فيه السلطة الفاشية التي استمرت لتاريخنا الحالي، فماذا لو عرفنا أن مصرع غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس كان في شهر محرم، وان وعد بلفور بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين كان في المحرم، ودخول العراق إلى الكويت كان في العاشر من محرم، والاحتلال الاميركي للعراق ٢٠٠٣. كل هذه الأحداث لم تكن دلالة عافيةً، بل إمارة على المأزق، والليالي القريشية التي يعيشها المجتمع الإسلامي. فإذا كانت الدولة الإسلامية رسالية تنطلق من دعوة للخير والهداية وحقن للدماء وإقامة القسط والعدل، وان الانسان مستخلف في الأرض والكون مسخر له، فهي دولة تعمر الأرض خيراً وعدالة، فكيف تمتلىء عذاباً وقهراً ودماً، وكيف لم تحمل المسؤولية بشكل أوسع؟ أيعود السبب عدم تخلصها من الميراث الوثني؟ يجب أن نعلم أن المحرم كان بداية ناصعة ملحميةً بيضاء انتهى بخبر كارثي متجدد يجعل الجراح لا تندمل أبداً ويجعلنا بحاجة ماسة لتفعيل آلياتِ من شأنها تجعلنا أمة عدل وإنصاف وعلينا أن نعلم إنه في غيبة الحرية تسود قيم الوثنية، وأن من يرى الإسلام قائمة محرمات وعقوبات وحسب يصغرون من شأن الرسالة ويجعلون الخبر غير منطبق مع المبتدأ، وأنه لا خشية مطلقاً على الأمة من التمذهب بل الخوف كل الخوف من التعصب والتدين المنقوص، وعلينا الانتباه أن دورة الزمن تمضي وقد مر منها ١٤ قرناً، وعلينا استخدام المستخلصات التاريخية في إيقاظ الوعي ولنعلم ان لكل حسين مختار، ولكل يزيد أنصار، حتى نستطيع القيام بمشروع نهوضي تقدمي إسلامي يقاوم كل غبن وضلال، فلنتذكر المحرم ولنقاوم الدماء التي لطخته. يقول الشاعر عبدالرحمن الشرقاوي: "فلتذكروني لا بسفككم دماء الآخرين .. بل اذكروني بانتشال الحق من ظفر الضلال .. بل اذكروني بالنضال على الطريق، لكي يسود العدل فيما بينكم .. فلتذكروني بالنضال .. فلتذكروني عندما تغدو الحقيقة وحدها حيرى حزينة فإذا بأسوار المدينة لا تصون حمى المدينة لكنها تحمي الأمير وأهله والتابعين فلتذكروني عندما تجد الفصائل نفسها أضحت غريبة وإذا الرذائل أصبحت هي وحدها الفضلى الحبيبة وإذا حكمتم من قصور الغانيات ومن مقاصير الجواري فلتذكروني حين يختلط المزيف بالشريف فلتذكروني حين تشتبه الحقيقة بالخيال فلتذكروني إن رأيتم حاكميكم يكذبون ويغدرون ويفتكون والأقوياء فلتذكروني عند هذا كله ولتنهضوا باسم الحياة كي ترفعوا علم الحقيقة والعدالة فلتذكروا ثأري العظيم لتأخذوه من الطغاة وبذاك تنتصر الحياة فإذا سكتم بعد ذلك على الخديعة وارتضى الإنسان ذله فانا سأذبح من جديد وأظل أقتل من جديد وأظل أقتل كل يوم ألف قتلة سأظل اقتل كلما رغمت أنوف في المذلة ويظل يحكمكم يزيدها ... ويفعل ما يريد وولاته يستعبدونكم وهم شر العبيد ويظل يلقنكم وإن طال المدى الجرح. مي فاروق كاتبة مصرية
مشاركة :