الجهاد ذروة سنام الإسلام، لاجدال في ذلك، لكنه ليس العمل الوحيد المؤدي إلى الجنة، هناك أعمال أخرى سابقة على الجهاد في الفضل والأجر. أدبياتنا قصرت دخول الجنة على الشهداء، ولذلك أسرع إليه كثير من المسلمين وبخاصة الذين أسرفوا على أنفسهم، ظنا منهم أن الشهادة هي أقرب الطرق إلى الجنة دون التأكد فيما إذا كانت الطريق التي سلكوها صحيحة أم خاطئة، وباعتقاد أنهم يدخلون الجنة بعمل الجهاد وليس برحمة الله أولاً وفضله. الجنة لا تؤتى بعقوق الوالدين، وتضييع الواجبات والمسؤوليات، والكذب والتزوير، ومخالفة الأنظمة التي سُنّت تأكيدا لخلافة الإنسان على هذه الأرض وعمارته لها. بعض الذين نفروا للقتال كانت نواياهم طيبة، ولكن الطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة (السذاجة)، التي لا تتوافق مع كون المؤمن "كيّس فطِن"، وأنه "لايلدغ من جحر مرتين". بعض المتسللين إلى الجهاد يكتشفون فداحة ما ارتكبوه، فهم لايعرفون تحت أية راية ينحرون نفوسهم، والحظيظ منهم من يتمكن من العودة إلى بلاده نادما. أذكر حوارا صحفيا أجريته مع الرئيس برهان الدين رباني -رحمه الله- قال فيه بأنكم في العالم العربي وضعتم المجاهدين الأفغان في مصاف الصحابة: "وفينا من يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ومن يقاتل حمية، وقطاع طرق وتجار مخدرات"، وكأنه يتنبأ بما حدث لاحقا من اقتتال قادة المجاهدين الأفغان. حينذاك، كنا أربعة زملاء بزينا السعودي في الطريق إلى مضافة الأنصار لصلاة الجمعة بعد يوم واحد من وصولنا إلى بيشاور، زُين لنا أننا سنكون محل التقدير، وستفسح لنا الصفوف الأولى في المصلى. العكس هو ما حدث، فقد تعاملوا معنا بريبة، إذ لم نكن عندهم سوى "كلاب للسلطة". وقبل ذلك بأشهر حضر بعض الدعاة السعوديين فحوصروا في مضافة الأنصار باعتبارهم عملاء. وعطفا على ذلك كيف سيكون تعاملهم مع شباب ينيخون ركائبهم في مراتع الشك والريبة؟ هل سيستقبلونهم بالتقدير؟ أم سيتعاملون معهم على أنهم عملاء وبالتالي فهم إما من نصيب عصابة تتاجر بهم وتبيعهم في سوق النخاسة المخابراتي، كما حدث بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان، أو ستُطلب فِدىً من أسرهم وبلدهم ينفق منها على المجاهدين؟ أو سيختبر صدق أولئك المغرر بهم فيفخخون ويرسلون لتفجير أنفسهم في "العدو"، وبذلك يكون قادتهم قد حققوا نصرا للتنظيم، وتخلصوا من هذا السعودي المشكوك فيه بداية. ومن يستقرئ وضع السعوديين في جبهات القتال فلن يخرج عن كونه مشروع أضحية، أو مصدر تمويل، أو عربون تعاون مع جهاز استخباراتي ما. الجهاد تنعقد رايته وفق أركانه الشرعية وتحت لواء إمام يدافع عن قضية عادلة تحقق خيرا للإسلام والمسلمين أو تدفع عنهم عدوا، وما تتواتر به الأخبار وثابت عند العقلاء هو أن أئمة الجهاد في تلك التنظيمات ليسوا سوى صنيعة مخابرات أجنبية عرفوا نقاط الضعف عند الشباب الإسلامي فصمموا لهم تلك الفخاخ باسم الجهاد فتقاطروا عليها لايلوون على شيء. كيف يضحي الإنسان بنفسه تحت قيادة شخص لايعرفه، وكيف وثق به وبمشروعه؟ وما هي القضية التي يجاهد من أجلها؟ وهل نفعها على الأمة أكبر من ضررها أو العكس؟ هل يعرف من يتسابقون على القتال أنهم يوجهون من مقرات مخابرات تابعة لقوة ما في الشرق أو الغرب؟ وأنهم أدوات لتحقيق أهداف بعيدة المدى لاتخدم الإسلام والمسلمين؟ إن كانوا يعرفون ذلك ويموتون في سبيل أن تكون كلمة الذين كفروا هي العليا فإلى جهنم وبئس المصير، وإن كانوا لايعلمون فإن الواجب الشرعي أن يستأذنوا ممن يعلم جيدا خلفيات المؤامرات وطبيعة العلاقات الدولية والتدافع بين الخير والشر واقتسام المصالح. وتأسيسا على ذلك يكون إعلان الجهاد من عدمه منوطاً بولي الأمر الذي لديه من المعلومات والمعطيات والحسابات والمستشارين الشرعيين والسياسيين المتمكنين، والمؤسسات والهيئات الدينية الموثوقة ما يمكنه من ممارسة هذا الدور. مشكلتنا الحقيقية التي يجب أن نتعامل معها أننا وعلى مدى عقود من الزمن أهملنا التركيز على أعمال كثيرة مؤدية إلى الجنة –بمشيئة الله، واكتفينا بالجهاد، وبسرد كرامات المجاهدين في دعائية استدرجت بها أجهزة استخبارية الشباب المسلم. أركان الإسلام الخمسة تدعم بناء المجتمع الإنساني، بدءاً بالتوحيد ومرورا بتهذيب النفس بالعبادة، والتكافل الاجتماعي ثم التواصل بين المسلمين من شعوب وأعراق مختلفة. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رتب أقسام الجهاد إلى "جهاد بالقلب كالعزم عليه ، أو بالدّعوة إلى الإسلام وشرائعه، أو بإقامة الحجّة على المبطل، أو ببيان الحقّ وإزالة الشّبهة، أو بالرّأي والتّدبير فيما فيه نفع المسلمين، أو بالقتال بنفسه". وكما هو ملاحظ فإن القتال بالنفس جاء في ذيل الترتيب. فلماذا أهملنا ما قبله في مناهجنا وخطبنا وإعلامنا وحراكنا الثقافي حتى انحصرت الطرق المؤدية إلى الجنة في القتال؟ أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتنا ومراجعة خطابنا الديني والثقافي، وإلى نفض الكسل عن عقولنا، فالاسلام دين حياة وبناء وتعايش.
مشاركة :