منذ أيام قليلة اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي انتقاداً ومدحاً في حفل ملكة جمال لبنان. لوهلة تحوّلت هذه المواقع إلى ما يشبه الجيوش التي تحضّر لبدء الحرب على بعضها. واقع الحال، أن كل سنة تعيش وسائل التواصل الاجتماعي هذه الحال من الانقسام بين المؤيد والمعارض، بطبيعة الحال. ولا يقتصر الأمر عند هذه المسابقة، إذ تكفي إثارة أي موضوع خلافي في لبنان أو الخارج، ليهبّ اللبنانيون إلى هواتفهم وأجهزتهم الذكية، ويستعرضون آراءهم ووجهات نظرهم، حالهم حال جمهور وسائل التواصل في كل العالم. وتوجهت سهام الانتقاد في شكل رئيس إلى إحدى المتسابقات التي كان واضحاً من خلال إجابتها عن الأسئلة عدم إلمامها بالانشقاق المجتمعي اللبناني، خصوصاً بعدما أخطأت في اسم حملة «طلعت ريحتكم»، ما أدى إلى حملة من الانتقادات والاستهزاء بحقها، على الرغم من أن عدم معرفتها اللغة العربية جيداً كان واضحاً، حتى من دون إشارة مقدمة الحدث ديما صادق إلى أن المشتركة لا تتكلم العربية جيداً. أما سبب مشاركتها في الحفل فهذا موضوع آخر. والحال، أن وسائل التواصل بدأت تأخذ حيّزها الرئيس في الأحداث كلها، خصوصاً في أحداث جمالية مشابهة. إذ كان لافتاً حجم الاهتمام الذي أولته إدارة الحدث لهذه الوسائل من خلال إفساح المجال أمام جمهور وسائل التواصل لطرح سؤال على المشتركات، فضلاً عن توحيد الوسم والنقل المباشر وغيرها من الخطوات التي تسهم في إعطاء الطابع التفاعلي مع هذا الجمهور وتحويله إلى حَكم تاسع مع أعضاء لجنة الحكم الثمانية، وتالياً إلى سلطة لها قوة التأثير. والواقع، أن هفوات المشتركات، خصوصاً في مرحلة الأسئلة، لا تتخطى الأمر «الطبيعي» الذي لا يجب تضخيمه على الصورة التي ضُخّم فيها، خصوصاً أن أعمارهن لا تزيد عن 25 سنة، ما يعني أنهن في مراحل تأسيس وعيهم السياسي والمدني الأولى. إلا أنه في لبنان الأمر مختلف، فبمجرد اعتلاء أي شخص المسرح، يصبح مطالباً بختم المعرفة وعدم اقتراف الأخطاء، وإلا سيتم تحويله إلى مادة دسمة ستتناولها البرامج الكوميدية التي تعرضها شاشاتنا وفيديوهات مركبة تحوّل الإجابة إلى وصمة عار ستطاله العمر كله. ولعل مصادفة الخطأ مع حدث ملكة جمال لبنان أخذ حيزاً أكبر من حجمه، خصوصاً لكونه حدثاً «جمالياً». إذ استعيد ربط الجمال بانعدام الذكاء بشدة على وسائل التواصل، وتم وسم جميع المشتركات بهذه الصفة، لمجرد أنهن شاركن في هذه المسابقة. وانقسم الرأي المعارض بين معارضي تسليع المرأة في المسابقات، والعقلية السائدة التي تفترض أن كل فتاة أو شاب لديهم قدر من الجمال، يفترض أن يكونوا أغبياء أو على أقل تقدير أقل ذكاءً من المعدل السائد. على كل حال، تضخمت هذه النظرة وظهرت إلى العلن في شكل كبير بسبب «سلطة» وسائل التواصل التي مكنت أيّاً كان من إبداء رأيه مهما كان مضمونه، وتحويله إلى رأي يمكن لأي كان الاطلاع عليه. بطبيعة الحال، لا حاجة إلى نفي هذه المقولة والارتباط بين الجمال والذكاء، كما لا يمكن نفي الأثر السلبي لوسائل التواصل على مسابقات كهذه، وعلى معايير الجمال أيضاً. فبطبيعة الحال، حولت وسائل التواصل وانتشارها المشاهد إلى جلاد يستطيع إطلاق حكمه على المشتركات براحة تامة، ويكفي أن يكون لديه قاعدة عريضة من المتابعين حتى يصبح هذا الرأي معمولاً به أو على الأقل سهل الوصول إليه والاطلاع عليه. ومكنت الطرق التفاعلية التي بدأت البرامج باعتمادها مع وسائل التواصل، لأسباب مجهولة وغير منطقية، الجمهور من التحول إلى سلطة تطلق سهامها على التنظيم والمشتركات والتدخل في كل التفاصيل حتى ولو لم يكن لديهم أي خبرة أو معرفة في الأمر. وبعيداً عن السلطة التي أعطيت من دون وجه حق إلى هذا الجمهور، لا يمكن إنكار الأثر الاضافي الذي ساهم انتشار هذه الوسائل في ترسيخه على مقاييس الجمال بحد ذاتها، وعلى طبيعة هذه المسابقات. فبدءاً من التلفزيون والشاشة ودورها في صنع النجوم وتعميم معايير الجمال السائدة، ساهمت وسائل التواصل في إيصال نجوم إلى عرش الجمال وحولتهم إلى «أيقونات» يجب الاقتداء بهم على غرار كيم كارداشيان وجاستن بيبر مثلاً. ولعل عدد الأشخاص الذين مكنتهم وسائل التواصل من التربع على هذا العرش، أكبر بكثير من عدد النجوم الذين صنعتهم شاشات السينما، بل حتى أن الأخيرة بدأت بالاستعانة بالنجوم الجدد في الترويج، ما يعني أن الشاشة الكبيرة بدأت شيئاً فشيئاً تفقد قيمتها في صناعة النجوم لمصلحة وسائل التواصل. وأظهر بحث بريطاني صدر عن البرلمان بالتعاون مع منظمة «صورة الجسد» في عام 2012 أن الأطفال في عمر خمس سنوات يهتمون بصورة جسدهم ومعايير الجمال، وأشار التقرير الذي استقبل التصويت الالكتروني على مدار ثلاثة أشهر، أن نحو نصف الفتيات وثلث الشبان، اتبعوا حمية غذائية لخسارة الوزن. واعتبر أن هذا القلق على الشكل الخارجي رفع نسبة عمليات التجميل 20 في المئة منذ 2002. وتأتي هذه الاحصاءات مع احصاءات تشير إلى أن ثلثي المراهقين في بريطانيا أنشؤا حسابات في موقع «فايسبوك». وتشير العضو في البرلمان البريطاني كارولين نوك التي شاركت في اعداد التقرير إلى أنها زارت بعض المدارس وتحدثت مع المراهقين بعمر 12 -13 سنة عن سهولة تعديل الصور لتحويلها إلى صور بعيدة عن الحقيقة، وطلبت منهم رفع الأيدي في حال قاموا بهذه العملية على صورهم الخاصة، ليقوم الجميع برفع أيديهم. وتضيف وفقاً لما نقلته «هيئة الاذاعة والتلفزيون البريطانية» أن وسائل التواصل هي وسيلة التواصل الاساسية لهم مع العالم الخارجي، ولكنهم ينظرون إلى العالم من خلال «الفلاتر» وهذا غير صحي. وما من شك أن وسائل التواصل، حولت الكثير من الأشخاص إلى نجوم نستقي منهم كمجتمعات معايير الجمال والنجاح، وأظهر بحث أعدته شركة «دوف» العالمية لمساحيق التجميل على 1027 امرأة بين 18 و64 سنة، أن معايير الجمال لديهن تأتي من «الشخصيات النسائية العامة» أولاً بنسبة 29 في المئة، ووسائل التواصل الاجتماعي بنسبة 25 في المئة. كما أظهر البحث أن هذه النسبة تتضاعف مقارنة بها قبل دخولهن إلى المرحلة الثانوية. ومن الملاحظ أيضاً أن انتشار وسائل التواصل، ساعدت في انتشار المدونات التي تختص بالموضة والجمال، إذ تقوم هذه المدونات بتقويم المنتجات والأشخاص ومدى مطابقتهم لمعايير الجمال. ونظراً إلى عدد المتابعين الضخم، أصبح للمدونات سلطة تسمح لهم الحكم على أي كان وأي منتج وتحويل آراء مؤسسيها إلى رأي عام يلتزم به معظم المتابعين. وحتى أن شركات مستحضرات التجميل أصبحت تعتمد هذه الوسيلة في الترويج، إذ تدفع المال لاصحاب المدونات مقابل الترويج لمستحضراتهم ومعاييرهم الخاصة على منصتهم. وأدركت الشركات أهمية هذه الوسائل أيضاً، إذ تشير الاحصاءات إلى أن 98 في المئة من الشركات التي تعمل في مجال الموضة تملك حساب «انستاغرام»، في حين أن 96 في المئة من الشركات التي تعمل في مجال الجمال تملك حساباً على هذه المنصة. والحال، أن وسائل التواصل دخلت إلى عالم الجمال بقسوة كما دخلت إلى كل المجالات الأخرى، ولكن الأكيد أننا مقبلون على معايير أكثر قسوة وتوحش خصوصاً مع الانتشار الواسع الذي تحظى به هذه الوسائل، ومع «السلطة» التي تصبح شيئاً فشيئاً مطلقة لجمهورها.
مشاركة :