عندما وصل الابن الأكبر لفرانسيس جنسن، أندرو، إلى المدرسة الثانوية، خضع لعملية تحوّل. غيّر الشاب الهادئ لون شعره من البني إلى الأسود، وبدأ يرتدي ملابس أكثر جرأة. كأنه تحوّل إلى مراهق مليء بالقلق بين ليلة وضحاها. تساءلت جنسن، وهي الآن رئيسة قسم الأعصاب في كلية الطب في بيرلمان في جامعة بنسلفانيا، عما حدث، وعما إذا كان شقيق أندرو الأصغر سيختبر التحوّل نفسه. من ثم، قررت استخدام مهاراتها كعالمة أعصاب لاستكشاف الأمر. وتقول مؤلفة كتاب «العقل المراهق»: «أدركت أن ثمة تجربة تجري في بيتي». قبل نحو 10 سنوات، كان المجتمع ككل يعتقد أن لدى المراهق دماغاً لم يتطوّر بشكل كامل إلى دماغ ناضج في ما يتعلّق بالطاقة فحسب. وعلى مدى أجيال، كان التفكير الشامل أن الدماغ ينمو بشكل كامل عندما يصل الطفل إلى سن البلوغ. ولكن بفضل بحوث أشخاص كفرانسيس جنسن وكثيرين غيرها، في بداية التسعينيات، أصبح من الواضح أن دماغ المراهق أمر خاص وأكثر تعقيداً بكثير مما يبدو. احتفظ الأطباء والأولياء والمعلمون فترة طويلة بأفكار مسبقة حول سبب تصرف المراهقين بطريقة متهورة وعاطفية، وتبين أن كثيراً من هذه التفسيرات ليس صحيحاً. كان يُعتقد أن اندفاع المراهقين سببه الهرمونات المستعرة، وأن التعامل مع هؤلاء صعب لأنهم يكرهون السلطة. إلا أن التقدم في التصوير الدماغي خلال السنوات الماضية، جاءنا بنبأ أكثر تعقيداً: يكون الدماغ في سن المراهقة بعيداً كل البعد عن النضوج، وبنيته وآثارها في تطوره يستمران مع المرء في عمر العشرينات. كشف التصوير الدماغي المتقدم أن الدماغ في سن المراهقة يتسم بكثير من الليونة، ما يعني أنه يمكن أن يتغير ويتكيف ويستجيب لبيئته، فهو لا ينمو بالحجم فحسب خلال سنوات المراهقة، إنما أيضاً من خلال زيادة التواصل بين مناطق الدماغ. مثلاً، المادة البيضاء في الدماغ، التي تتشكّل من مادة دهنية تسمى الميلين، تلتف مع تطور الدماغ حول محاور الخلايا العصبية، وهي طويلة ورقيقة، تمتدّ من الخلية وتنقل المعلومات، كالعازل على الأسلاك الكهربائية. وتقوي الميلينية (الاسم العلمي لهذه العملية) التواصل بين مناطق الدماغ وتزيده سرعة، وهي تؤدي دوراً رئيساً في تعزيز قدرات التعلم الأساسية لدى المرء. تبدأ عملية الميلينية من الدماغ الخلفي، وتشق طريقها إلى الأمام، ما يعني أن قشرة الفص الجبهي، وهي منطقة الدماغ التي تشارك في صنع القرار والتخطيط وضبط النفس، هي آخر جزء في مرحلة النضوج. لا يشير ذلك إلى أن المراهقين ليست لديهم قدرات قشرة الفص الجبهي، ولكن إشاراتهم لا تصل إلى الدماغ الخلفي بسرعة كافية لتنظيم عواطفهم. يتسبب ذلك بانتشار السلوك الخطر والمندفع بين المراهقين والشباب. وتقول جنسن: «هذا هو السبب الذي يدفع أولادي المراهقين إلى العودة إلى البيت من دون كتابهم الدراسي، وإلى أن ينتظروا حتى الساعة الثامنة مساءً ليتذكروا أن لديهم اختباراً في اليوم التالي. هم لم يطوروا بعد القدرة الكاملة على التفكير قدماً». ورغم أن نمو قشرة الفص الجبهي هي الخطوة الأخيرة في نمو الدماغ، فإن المراهقين يخضعون لتغيرات كبيرة في نظامهم الحوفي (منطقة الدماغ التي تسيطر على العواطف) في بداية سن البلوغ، الذي يتراوح عادة بين 10 و12 سنة. ويعتقد الأطباء أن عدم التطابق هذا في نمو جزء الدماغ الذي يسيطر على محفز ضبط العواطف والهرمونات، والجزء المليء بالعاطفة من الدماغ يسبب السلوكيات الخطرة والشائعة بين المراهقين. «تتواصل قشرة الفص الجبهي مع مراكز الدماغ العاطفية من خلال وصلات معقدة»، ويقول ب. ج. كايسي، مدير مختبرات أساسيات العقل المراهق في جامعة ييل، إن «لدى البالغين، تتعزّز هذه الصلات من خلال الخبرة والنضج، ولكن خلال فترة المراهقة، لا يكتمل نمو هذه الوصلات، لذا من الصعب على المراهقين إيقاف هذه النظم العاطفية». استجابات عاطفية يفيد هذا الفهم الجديد للبيولوجيا التي تكمن وراء هذه السلوكيات كلاً من المراهقين وأولياء أمورهم. وتؤكد جنسن، كذلك كيسي، أهمية وضع أمثلة للاستجابات العاطفية المناسبة، ومساعدة الشباب على التنقل بين المواقف الصعبة التي تزداد شيوعاً. مثلاً، في حين كان التنمر في الماضي محصوراً في المقام الأول في ملاعب المدارس، تتوافر للمراهقين اليوم تقنيات ووسائل إعلام اجتماعية تسهل نشر المعلومات الشريرة، فيما يصعب على الآباء أو المعلمين السيطرة على التفاعلات الافتراضية. ولكن ثمة فرصة هائلة لمساعدة المراهقين على تجاوز التداعيات. «كآباء، نريد غالباً حماية أطفالنا من الفشل أو أي ألم عاطفي»، يقول كيسي: «ولكن فرص التعلم من التجارب في سياق أسرة محبة وداعمة هي المفتاح لمساعدة المراهقين على تطوير قدراتهم كبالغين واستخدامها». قدرات عقلية وتشير الدراسات في السنوات الأخيرة إلى أن القدرات العقلية كالذكاء ليست جامدة. في هذا المجال، قاست دراسة نشرت عام 2011 في مجلة Nature نسبة الذكاء لدى 33 مراهقاً، 19 شاباً و14 فتاةً. وأعيد اختبارهم عام 2004، عندما تراوحت أعمارهم بين 12 و16 سنة، ثم عام 2008. اكتشف الباحثون أن نسبة الذكاء تغيرت مع مرور الوقت، فتحسنت لدى البعض فيما تدهورت لدى آخرين. ورغم أن أعضاء المجتمع الطبي يناقشون غالباً معايير قياس الذكاء حقاً، فإن ثمة اتفاقاً على أن لنتيجة الشخص في هذا المجال آثاراً في تعلمه وقدرته على أداء المهام. وقالت كاثي برايس، عالمة الأعصاب في كلية لندن الجامعية، لمجلة science: «هذه التغيرات حقيقية، وهي تنعكس في الدماغ». «إذ يقرر الناس في وقت مبكر إن كان هذا الطفل ذكياً وذلك الطفل ليس ذكياً، ولكن لا يمكنك أن تعتمد هذا التقييم في سنوات المراهقة». وتعني ليونة الدماغ في سن المراهقة أنه لم يفت الأوان بعد لتحفيز الأطفال على المشاركة في التعلم. فأنشطة ما بعد المدرسة، والتمرن والتأمل تفيد دورة الدماغ. وتقول كيسي: «فرص العثور على الذات والجرأة في مواجهة التحديات في مجال العلوم والتعليم وبين الأقران تترك آثاراً عميقة فينا خلال شبابنا». اضطرابات تحمل الروابط السريعة النمو في الدماغ لدى المراهقين بعض الآثار الجانبية السلبية، فنحو 70٪ من الأمراض العقلية، بما فيها القلق والمزاجية واضطرابات الأكل، والذهان، تظهر في سن المراهقة والبلوغ المبكر. التوقيت منطقي، إذ إن قشرة الفص الجبهي والشحمة الأمامية لهما علاقة بظهور أمراض كالاكتئاب والفصام. كذلك ترتفع المخاطر المتعلقة بالقضايا الصحية كالإدمان، خلال هذه الفترة. وتقول جنسن: «الإدمان مجرد شكل من أشكال التعلم». «ويتكرر الإدمان كتحفيز لدائرة المكافأة في الدماغ، وهي أكثر نضجاً من الشحمة الأمامية عند هذه النقطة. بيولوجيا أدمغة المراهقين تجعلهم أكثر عرضة لتأثيرات المواد والإجهاد». تأثير استخدام القنب على الدماغ في مرحلة البلوغ محط نقاش دائم، تقول جنسن إن البحوث تشير إلى أن الاستخدام المزمن له وبشكل يومي خلال سنوات المراهقة، يمكن أن يتداخل مع عملية النمو، من خلال وجود عامل مهدئ مؤثر في الدماغ، ويعوق عملية التعلم والذاكرة. تتابع جنسن: «يمكن للمراهقين تعلم الأمور بطريقة أصعب وأقوى وأسرع، ويمكنهم أيضاً أن يصابوا بالإدمان بطريقة أصعب وأقوى وأسرع». وأظهرت دراسة من العام الفائت أن خطر الإدمان على المواد الأفيونية زاد نحو 40٪ بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و 25 سنة منذ عام 2002 لغاية 2014. محاولات حتى مع تلك المخاطر، ثمة أمور كثيرة يمكن للمجتمعات القيام بها بهدف تحضير المراهقين والشباب للنجاح، بما في ذلك إيجاد سبل لهم للتخلص من التوتر. شهدت السنوات القليلة الماضية تحركاً للجهات التعليمية للضغط من أجل تأخير موعد بدء الدراسة، وسط بحث متزايد يظهر أن لدي المراهقين ميلاً طبيعياً للاستغراق في النوم. وعندما يدخلون سن البلوغ، فإنهم يخضعون لما يشار إليه بمرحلة النوم المتأخرة، فتتحول الساعات البيولوجية الداخلية لديهم، ويبدؤون بمواجهة صعوبة في النوم قبل الساعة 11 مساءً، والاستيقاظ قبل الثامنة صباحاً. وربط البحث بين نقص النوم لدى المراهقين والشباب وبين ارتفاع معدلات الأمراض المزمنة كالسمنة وداء السكري من النوع الثاني، وتزايد استخدام الكافيين، وانخفاض مستويات التحفيز، وضعف الانتباه والذاكرة، وغيرها. وقاد ذلك مجموعات مثل الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال إلى الضغط على المدارس الثانوية لتأخير أوقات بدء دوامها، ليحصل التلامذة على مزيد من النوم كل ليلة. تقول ماري كارسكادون، أستاذة الطب النفسي والسلوك البشري في جامعة براون: «ثمة شبكة جديدة للمعلومات من المراكز العاطفية في الدماغ، تعمل بشكل جيد في مرحلة المراهقة، ويمكننا أن نرى أنها تنشط خلال النوم». «وتشير العلوم الحديثة إلى أن النوم يؤدي دوراً أكثر أهمية مما كنا نظن، في ما يتعلق بنمو الدماغ». قدرة على التغير جاي غيد، أستاذ الطب النفسي في جامعة كاليفورنيا في سان دييغو، درس التغيرات الدماغية بين التوائم سنوات عدة، ويقول إن التغيرات الجذرية في بيولوجية الدماغ تعني أن سنوات المراهقة مليئة بالفرص وبالضعف. ويتابع: «حان الوقت للقيام بقفزات هائلة في إبداعنا وقدراتنا المعرفية». «هذا التناقض الظاهر في المراهقة ليس من قبيل المصادفة. فكل من القفزات الواضحة في قدراتنا ونقاط الضعف تجاه المرض، يرتبط بقدرة دماغ المراهق على التغير». فهم الشباب تعقيدات عقولهم يقطع شوطاً طويلاً في هذا المجال. تقول جنسن إنها تتلقى غالباً ملاحظات شكر من الطلاب بعدما تتحدث عن بحوثها في المدارس الثانوية. وتقول: «يتطلّع المراهقون إلى فهم أنفسهم. «إنه أمر رائع وجود تفسيرات حول سبب قيامك بهذا التصرف الغبي أو ذاك إزاء أصدقائك مثلاً. أعتقد أن الحديث عن هذا الأمر يعطيهم المزيد من التبصر». ربما لا تتوافر وسيلة لمنع أن يمرّ المرء بفترة المراهقة، ولكن ثمة طرائق للاستفادة من تلك السنوات الحرجة. كتبت جنسن نصيحة محفزة من أجل أبنائها وأقرانهم تقول: «اهتم بعقلك الآن، وسيهتم بك لاحقاً». * ألكسندرا سيفرلين- تايمز
مشاركة :