حفريات تاريخية في الأقليات القلقة والأقاليم المتمردة بقلم: أمين بن مسعود

  • 10/3/2017
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

حين تتردى الدولة من جهاز لتأمين العقد الاجتماعي بين المواطنين إلى إفراز هوياتي معين يفضي بالضرورة إلى تباين عن الهويات الثقافية الأخرى، تصبح الأخيرة قوميات متمردة تبحث عن دولتها المنشودة.العرب أمين بن مسعود [نُشر في 2017/10/03، العدد: 10770، ص(9)] في ذات الوقت الذي أعلن فيه الرئيس النيجيري محمد بخاري عن رفضه المطلق للمطالب الانفصالية في جنوب شرق البلاد وبالتحديد في منطقة بيافرا ودلتا النيجر، كانت الشرطة الكاميرونية تطلق الرصاص الحي ضد عناصر حركة أمبازونيا التي تطالب بانفصال المناطق الناطقة باللغة الإنكليزية عن المناطق الناطقة بالفرنسية مخلفة أكثر من عشرة قتلى وجرحى آخرين. وفي ذات الظرف الذي عبرت فيه الدولة العراقية عن تنديدها ومعارضتها الجازمة للاستفتاء الأحادي الذي أجراه أكراد العراق للانفصال، لم تتردد الشرطة الإسبانية في استخدام القوة المفرطة ضدّ المصوتين في استفتاء استقلال إقليم كاتالونيا عن مدريد. وبعيدا عن لغة الأرقام ونسب المشاركة من عدمها، وبمنأى أيضا عن منطق التخوين أو استقراء أفعال الداخل بحتمية إثارة الفاعل الخارجي، فإن قراءة عميقة لحال الأقليات المتمردة والقلقة في علاقتها بالدولة المركزية وبالغالبية الاجتماعية لا بد أن تعقد لبيان المسببات المشكلة لرهان الانفصال وراهن الانشطار الذي بات ينسحب على أكثر من دولة في العالم. فحتى الاتحاد الأوروبي الذي كان يوصد أبوابه دون انضمام تركيا بتعلة عجز أنقرة وقصورها عن إدارة التنوع الثقافي واللغوي على ترابها وحرمان أقلية إثنية ممثلة في الأكراد والأرمن بصورة أقل وضوحا من حقوقها الحضارية والرمزية المشروعة، بات اليوم يعرف إشكالا ثقافيا سياسيا عويصا مجسدا في مطلبية الانفصال التام من دولتين مركزيتين على الأقل، إقليم كاتالونيا عن إسبانيا وإسكتلندا عن بريطانيا العظمى. ولا يستبعد المتابعون أن تتزايد دعوات الانفصال والاستقلال في أكثر من دولة لا سيما وأن إشكاليات كثيرة لا تزال عالقة في إقليم الباسك ولدى أقليات لغوية وإثنية كثيرة في القارة العجوز وفي غيرها أيضا. قد يكون من المهم معرفيا في هذا السياق الإشارة إلى أنّ كثرة الأمثلة عن الأقليات القلقة والأقاليم المتمردة، من المشرق إلى المغرب ومن أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تؤكّد أنّ فشل الفاعل الرسمي في إدارة التنوع الثقافي واللغوي والحضاري غير مرتبط فقط بفشل الدولة الوطنية في العالم العربي في تأمين هذا الاستحقاق، حيث أن دولا قومية ديمقراطية غربية عريقة عجزت عن استكمال المنجز الثقافي في تجمعاتها البشرية. كما أن تعدد الأمثلة من الراهن الاجتماعي يؤكد أيضا أن الإشكال غير مرتبط بالهجرة البشرية من الجنوب إلى الشمال، فهي قضية ثقافية تاريخية أصيلة ذات علاقة بإثنيات وروافد أصيلة غير وافدة. صحيح أن الأقليات المهاجرة أو ذات الأصول المهاجرة قد تكون أثارت أسئلة المواطنة والثقافة والهوية والدين والشخصية القاعدية ضمن المجال العمومي، وقد تكون عبر هذه الإثارة قد استحثت بعض التيارات الشوفينية على التمظهر بشكل متطرف، ولكن الأصح أن قضايا الانفصال هي ذات علاقة بمقولة الدولة وبما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو بالعنف الرمزي المسلط من طرف الفاعل الرسمي حيال المختلف، إن كان فرديا أو جماعيا. بنظرة عميقة للراهن الدولي، فإن الدولة الوطنية تسمّى في بعض الأدبيات بالدولة الأمة، حيث تكون الدولة تعبيرا عن هوية ثقافية ولغوية وتاريخية محددة تحمل في طياتها بذور الانقسام والانشطار، ذلك أن الأقليات القلقة والأقاليم المتمردة ستنبجس بمجرد استيعابها بأن الدولة الوطنية هي تعبير عن قومية محددة لا يستوعب القوميات الأخرى. وحين تتردى الدولة من جهاز لتأمين العقد الاجتماعي بين المواطنين إلى إفراز هوياتي معيّن يفضي بالضرورة إلى تباين عن الهويات الثقافية الأخرى، تصبح الأخيرة قوميات متمردة تبحث عن دولتها المنشودة. وهو بالضبط ما حصل في جنوب السودان وفي باكستان وفي كردستان أخيرا وفي إقليم كاتالونيا الأحد الماضي. هويات إثنية متغايرة عن دول قومية محيطة بها تعتبر أن لها الحق مثل باقي القوميات الأخرى في دولة وطنية مستقلة بها. الخطير في هذا السياق، أنّ العلاقة التلازمية بين “الإثنية والدولة” ستفضي في الأخير إلى تفريخ غير متناه في أشباه الدول الوطنية بعد تصيير الإثنيات إلى أقليات متمردة ضد الدولة الوطنية وضد قيم ومبادئ العيش المشترك. خلال مناقشته للمقاربة الليبرالية القائمة على توحيد السوق وتوحيد الشعب في بداية التسعينات، طرح المثقف الكندي ويل كيمليكا براديغم مفهوم “التعدد الثقافي” للخروج من إشكال الدولة الوطنية ولمجابهة استحقاق الأقليات كعنوان ثراء ثقافي وحضاري ولغوي لا كعامل تمزيق وانشطار هوياتي. وقد اعتبر كيمليكا في أطروحاته الفكرية أن خروج الدولة من مفهوم “الأمة” نحو التعدد الثقافي حيث الاعتراف بكافة الإثنيات والأقليات التي صهرت التاريخ وشاركت في تأصيل مفهوم الهوية المشتركة مع بناء نموذج تشاركي في التعايش، يكفل للجميع حق المشاركة في الحياة السياسية والبرلمانية والمدنية خير من التموقع صلب براديغم الدولة الوطنية. سيظلّ الإشكال موجودا طالما أن الدولة تحافظ على مركزيتها الهوياتية وتعمل في بعض الأحيان على أدلجة القومية، لتفرز في المحصلة دولا أقلية قومية على شاكلة جنوب السودان أو إقليم كردستان وكاتالونيا والباسك بين فرنسا وإسبانيا، تحمل في طياتها ذات بذور الانقسام ومقدمات الانشطار الموجودة في الدول المركزية. أولى مقدمات الحل تصحيح علاقة الدولة بالهوية الإثنية، والفصل بين الدولة باعتبارها دولة المواطنة والهويات الإثنية كعنوان ثراء ثقافي واجتماعي وحضاري يفرض المساواة بين كافة المواطنين ولا يستجلب التمايز الهوياتي. ثاني مقدمات الحل، تصحيح علاقة الهوية بالدولة، فليس بالضرورة أن تكون الهويات لبنة للدولة المستقبلية فكم من هوية فقدت زخمها عندما صارت أيديولوجية دولة. ثالث مقدمات الحل، جسر الهوة بين مفاهيم ثلاثة أساسية وهي التاريخ والذاكرة والهوية الوطنية، تأصيلا لهوية جامعة لا تطمس معالم التاريخ والجغرافيا ولا تقفز فوق الحقائق، ولا تداوي رتق الهوية عبر اختلاق الهويات أو اختراق الأوهام. كاتب ومحلل سياسي تونسيأمين بن مسعود

مشاركة :